أصوات الضمير في مايكروسوفت وعسكرة التكنولوجيا

٢٠٢٥/٤/٧م
د. عاصم منصور
في مشهد استثنائي وتاريخي، وقفت الشابة المهندسة المغربية الأصل، ابتهال أبو السعد؛ شامخة تصرخ في وجه الرئيس التنفيذي للذكاء الاصطناعي؛ خلال احتفالية مايكروسوفت بمرور 50 عاماً على تأسيسها وقالت: أنتم تدعمون الإبادة الجماعية في منطقتنا، وأنت تعلم يا مصطفى، أنك تاجر حرب، أيديكم ملطخة بالدماء، كيف تحتفلون بينما تقومون بقتل الأطفال؟ عار عليكم جميعاً!
صرخة ابتهال كانت انتصاراً لمبادئها وإنسانيتها مجازفة بعملها ومستقبلها في سبيل الحقيقة، ولم تكن هي الوحيدة التي طرقت جدران الصمت في جنبات القاعة التي تعجُّ بالمهندسين والمبرمجين والمديرين؛ بل تبعتها صرخة المهندسة الهندية فانيا أجروال؛ والتي تماثلها شجاعة وتخالفها ديناً وعرقاً، قاطعت جلسة رئيسية حضرها بيل غيتس وساتيا ناديلا، متّهمة الحضور بالمنافقين وبقتل 50 ألف فلسطيني؛ لكن الثمن كان محاولة إسكاتهما وطردهما من القاعة، وتم لاحقا حظر حساباتهما في العمل وهو ما قد يشير إلى إجراءات فصلهما.
ابتهال لم تكتف بالانسحاب بهدوء؛ بل اختارت أن تحرج الجميع على المِنصّة وتُشهر التواطؤ العلني للشركة التي أبرمت عقداً بقيمة 133 مليون دولار مع وزارة الدفاع الإسرائيلية، وتحدثت عن المضايقات التي تعرّضت لها داخل الشركة ومحاولات إسكاتها بل وتحذيرها من «تسييس عملها».
لقد وضعت ابتهال شركات التقنية أمام مسؤوليات كُبرى تتعلق بالضمير والأخلاق، فرسالتها لم تكن مجرد احتجاج؛ بل كانت دعوة حقيقية لإعادة تعريف معنى الإنسانية والتكنولوجيا، ومناشدة للعاملين في شركات الذكاء الاصطناعي أنْ لا يديروا ظهورهم لمعاناة الأبرياء.
ففي العقد الأخير تسارعت وتيرة استخدام الذكاء الاصطناعي في القطاعات العسكرية مثل أنظمة تحديد الأهداف باستخدام صور الأقمار الصناعية، استخدام خوارزميات لتصنيف الأجسام البشرية وتحديد المشتبه بهم، وتحليل البيانات الميدانية في الوقت الفعلي لتسريع «قرار الضربة»، وفي سياق حرب الإبادة في غزة، ظهرت تقارير متعددة تشير إلى اعتماد الجيش على أنظمة ذكية في تعقب المدنيين وقصف المنازل استناداً إلى احتمالات وتحليلات البيانات مما يجعل قرار القتل أسرع وأكثر برودة وأقل مساءلة، ودون اعتبار للأرواح التي تُزهق ولا للمدنيين الذين يعيشون جحيماً غير مسبوق في تاريخ البشرية.
الأمر المفارق في المشهد أنَّ من كان يخطب لحظة قيام ابتهال بالاحتجاج هو مصطفى سليمان البريطاني الجنسية والسوري الأصل، أحد أبرز الشخصيات في العالم في مجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والذي نشط قبل عقدين في خدمة الجالية المُسلمة في بريطانيا، واليوم يقود شركة كان يُفترض أن تكون أكثر وعياً بِمخاطر عسكرة التكنولوجيا، وقد حاولت ابتهال أن تُذكِّره بِأسرتِه السّورية.
إنَّ أكبر خطر يُهدد البشرية اليوم ليس الذكاء الاصطناعي؛ بل انعدام الضمير لدى من يُطوِّره؛ فالمسافة بين المُبرمج في كاليفورنيا والطِّفل في غزة قد تبدو بعيدة لكنها اليوم أقرب من أي وقت مضى.
ومع ذلك في عالم تستخدم فيه التكنولوجيا لقتل الأبرياء وتدفن فيه الحقيقة تحت شعارات «الاحترافية» و»الحياد» قد يبدو أنَّ الآلة رغم جمودها تملك ضميراً أنقى من بعض البشر؛ فالآلة لا تكذب ولا تحتفل بالمجازر ولا تبرِّر الظُّلم، أما بعض العقول التي برْمَجتها فقد برْمجت ضمائرها على الصّمت والتواطُؤ واللامبالاة، لكن ابتهال خرجت عن السّرب: لا أعتقد بأن الخطر يكمن في الذكاء الاصطناعي بل الخطر هو في ذكاء طبيعي خال من الرحمة.
في العالم اليوم هنالك شباب يتمرَّد على منطق السوق وتحالُف الأقوياء والأغنياء، ويحاولون تشكيل وعي يتحدى عسكرة التقنية، وينتصر للإنسان والعدالة.