الانتخابات الأميركية بين عاصفتين
تعتبر السنة التي تُجرى فيها الانتخابات الرئاسية الأميركية سنة مميزة من وجهة نظر الشعب الأميركي, ففيها يقرر الناخبون من سيدير دفّة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية لأربع سنوات قادمة, حيث يدلي الناخبون بأصواتهم لاختيار الرئيس وحكام الولايات وكامل أعضاء مجلس النواب وثلث الشيوخ .
وقد كان من المتوقع ان يتّسم الموسم الانتخابي للعام 2020 بإلإثارة والشراسة: فالرئيس الأميركي الحالي، والطامح بفترة ثانية من الحكم، هو من أكثر الرؤساء الأميركيين إثارة للجدل في تاريخ البلاد! كما أن حالة الانقسام المجتمعي التي تشهدها الولايات المتحدة الأميركية في الوقت الراهن، هي الأشد منذ عقود, ويبدو أن هذه الظروف مجتمعةً لم تكن كافية لتجعل من عام 2020 عاماً مميزاً ومختلفاً بالنسبة للأميركيين, بل فاجأنا بهجمة عاتية لوباء فيروس الكورونا الذي اجتاح دول العالم دون استثناء، والذي كان للولايات المتحدة الأميركية منه نصيب الأسد، حيث حصد آلاف الأرواح وأصاب ما يقارب المليوني أميركي, وتسبب بوقف عجلة الاقتصاد ونتج عنه خسائر اقتصادية فادحة تقدّر بالتريليونات, وخلّف نسبة غير مسبوقة من البطالة.
ولم يكد الأميركيون يتعافون جزئيا من صدمة وباء كورونا، وبدء عودة الحياة إلى طبيعتها، حتى فجعوا بفيديو صادم أشعل منصات التواصل الاجتماعي، يُظهر مشهداً قاسيا لرجل أمن أميركي يجثو فوق عنق المواطن الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد، في وضعية قاتلة لتثبيته رغم أنه لم يبد أي مقاومة! وكانت آخر عبارة قالها فلويد:» لا أستطيع التنفس» قبل ان يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقتل خنقاً.
لتصبح هذه العبارة ( I can`t breathe ) شعاراً للمحتجين الغاضبين الذين خرجوا إلى الشوارع، ووقفوا أمام البيت الأبيض احتجاجاً على سياسات التمييز العنصري التي تنتهجها السلطة الرسمية في البلاد ضد الأميركيين من أصول أفريقية. وكانت الشرارة لانطلاق المظاهرات الغاضبة التي اجتاحت معظم الولايات والمدن الاميركية، وبزخم لم تشهده البلاد منذ احتجاجات الحقوق المدنية ، وحرب فيتنام قبل نصف قرن .
وكان رد فعل الرئيس ترامب متوقعا ومتشابها في الحالتين، وأقصد تجاهله للوضع الخطير الذي أدى إلى انتشار فيروس كورونا، في أرجاء الولايات المتحدة الأميركية، وللاحتجاجات والإضرابات وأعمال العنف التي جاءت على خلفية مقتل جورج فلويد.
فقد قلل ترامب من شأن القضيتين، وفشل في إدارة هاتين الأزمتين الكبيرتين اللتين عصفتا بالبلاد، وتبنى مبدأ القوة ونظرية المؤامرة المزعومة، بالهجوم على اعدائه التقليديين من اعلام ورؤساء سابقين وخصوم سياسيين، ليخفي فشله، وهنأ نفسه على عبقريته في التعامل مع الحدثين بنجاح.
وبينما اشتدت وطأة الاحتجاجات في الشارع الأميركي ضد سياسات ترامب الداخلية، واستخدام القوة في قمعها، أظهرت استطلاعات الرأي العام أن الأغلبية العظمى من الاميركيين غير راضين عن أدائه ولا عن تصريحاته بخصوص الأزمتين، وعلى سبيل المثال دان الديموقراطيون استخدام الغاز المسيل للدموع ضد المحتجين أمام البيت الأبيض ووصفوه بالعار في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. وأعربوا عن حاجة الولايات المتحدة الأميركية إلى قيادة حكيمة بعيدا عن العنف والتعصب اللذين سيؤديان إلى انهيار البلاد على مختلف الصعد.
وبما ان الانتخابات في العادة هي استفتاء على تقييم أداء من هو في السلطة ،خصوصا في مواجهة الأخطار والتحديات ، فقد انعكس هذا على استطلاعات الرأي في معركة الرئاسة ، حيث تشير الى تقدم المنافس الديمقراطي جون بايدن بأكثر من عشر نقاط ، وهو فرق كبير يصعب تجسيره خصوصا اذا استمرت التأثيرات الاقتصادية لجائحة الكورونا ، وكذلك اذا استمر زخم الاحتجاجات في مختلف الولايات الأميركية.
لكن هذا لا يعني ان المعركة قد حسمت ، ففي الأشهر الخمسة التي تفصلنا عن موعد الانتخابات ما يكفي من الوقت لتحسين الاقتصاد، وخبو حركة الاحتجاج. عندها يتوجب على المنافس الديمقراطي، الذي لا يملك كاريزما بيل كلنتون، ويفتقر إلى فن الخطابة الذي اشتهر به أوباما، ان يقدم أكثر الصمت.