الباشا

فبراير 8, 2019

لو قدر لأحد أن يؤرخ لتطور الطب في بلدنا، فلا بد له أن يقف عند أحد أبرز مناراته، الدكتور محمود فياض الذي ينتمي إلى جيل العمالقة من الآباء المؤسسين لمهنه الطب في الأردن والذين نحتوا في الصخر من اجل رفعة المهنة وما زلنا ندين لهم بالكثير مما وصلنا اليه حتى يومنا هذا.
يعتبر الدكتور محمود رحمه الله الأب الشرعي لتخصص الاشعة التشخيصية في الأردن من خلال الدور الكبير الذي لعبه في تأسيسه والارتقاء به سواء من خلال عمله في الخدمات الطبية الملكية أو القطاع الخاص، حيث كان رحمه الله صاحب رؤية واضحة ورسالة سامية، فأصبح تخصص الأشعة في زمنه درة التخصصات سواء من حيث الكوادر التي قام بتدريبها والتي حملت هذا التخصص لعقود أو من خلال سعيه الدؤوب لمواكبة أحدث ما توصلت اليه التكنولوجيا في هذا المجال فكان أول من استحدث جهازا للتصوير الطبقي والرنين المغناطيسي والاشعة التداخلية وغيرها من الأجهزة التي نقلت الأردن إلى مصاف الدول المتقدمة في هذا المجال.
لقد كان “الباشا” وهو الاسم الذي كنا نحب ان نناديه به ولقد حمله عن استحقاق بل لقد أضفى عليه نوعا من القداسة كبيراً في كل شي، فقد عرفته استاذا تتلمذت في محرابه ونهلت من علمه الذي لم يبخل به يوماً على طالب علم، كان يشعرنا بالثقة بأنفسنا ويدفعنا نحو النجاح، لم يحاول يوما أن يسفه آراءنا حتى ولو جانبت الصواب، يستمع للجميع ويقوم بلطُف دون تجريح او تحقير . لقد ترفع الباشا عن سفاسف الأمور ولم يتلوث بمرض الاستئثار بالعلم خشية المنافسة فقد كان أكبر من أي منافسة وكان يرى نفسه كبيرا بابنائه وتلاميذه، كما عرفته رئيسا للجنة بورد الاشعة في المجلس الطبي الأردني حيث ساهم في رفع سوية الامتحان واكسابه سمعة حسنة بما عرف عنه من موضوعية وتوازن دون تشدد أو تفريط .
لقدعرفته إنسانا أخذ عن الانجليز الذين عايشهم طويلا الالتزام والإخلاص في العمل فقد كان أول الواصلين إلى العمل بعد أن يكون قد مارس رياضة المشي الصباحي التي لم يتركها الا بعد مرضه وكان يحترم مواعيده ولا يطيق الاستهتار بالوقت.
كنت أمر به مبكراً في طريقي الى المركز وبصورة شبه يومية وعلى مدى سنوات طويلة خلال عمله في المركز العربي أحمل إليه الحالات الصعبة والتي اطلب رأيه فيها ولم يشعرني يوماً بالتبرم رغم كثرة مشاغله، بل كان يُصر على أن اشاركه قهوة الصباح ويحرص على ان اشاركهم افطارهم الأسبوعي الذي اعتاد ان يجمع القسم على مائدته صباح كل خميس.
التقيته للمرة الأخيرة قبل سنوات على هامش حفل التكريم الذي أقامته له الخدمات الطبية وحضرها جمع من تلاميذه، صافحته وعرفته بنفسي وأنا أعلم انه لن يتذكرني، طفرت من عيني دمعة لا أدري أن كانت تبكي هذه الذاكرة التي لطالما نهلنا من مخزونها الثري قبل أن يطويها النسيان أم تلك الأيام الجميلة التي ولّـت الى غير رجعة وكم تمنيت لو انها كانت آخر عهدي به.
قصيرة هي الأيام التي نقضيها على هذه الأرض وإن طالت، لكن أعمالنا هي التي تجعل من هذه الحياة طويلة وممتدة حتى بعد أن نغادر هذه الدنيا، رحم الله استاذنا الدكتور محمود فيّـاض وجعل بصماته التي تركها صدقة جارية عندما ينقطع عمله إلا من ثلاثة.