الرعاية الصحية الشاملة.. “المال شيطان المدينة”
12/08/2015
لا يمكن لأي خطة للتغطية الصحية الشاملة أن ترى النور ما لم تتوفر لها الموارد اللازمة للإنفاق عليها، وضمان استدامتها. إذ خلص تقرير لمؤسسة “تشاتام هاوس” (Chatham House) البحثية البريطانية إلى أن الحد الأدنى للإنفاق الصحي السنوي على الفرد الواجب توفيره لتغطية شاملة، يبلغ 86 دولاراً. وهو رقم تعجز معظم الدول النامية عن تحقيقه. ومن دون توفير الأموال اللازمة، وضمان إدارتها بطريقة سليمة، فستتحول المشاريع إلى مجرد إنشاء رومانسي، تستحضره الحكومات كلما دعت الضرورة إلى خطب ود المواطنين، ودغدغة عواطفهم.
وهذا ما دفع الدول إلى البحث عن وسائل مختلفة لتمويل الإنفاق على الصحة. إذ كان التركيز في بادئ الأمر على جيب المواطن، وذلك لتحقيق هدفين رئيسين: الأول، خفض الإنفاق الحكومي المباشر، لناحية تقليص أو ضبط الإنفاق. والثاني، أن يمارس المواطن دوره كخط دفاع متقدم لضبط النفقات؛ إذ سيحاول تقليل الطلب على الخدمة قدر استطاعته، لتجنب دفع مبالغ قد لا تكون في متناوله.
لكن هذه الطريقة لم تلبث أن تهاوت في ظل المؤشرات القوية على إحجام الشرائح الفقيرة عن طلب الخدمة، لعجز أفرادها عن الوفاء بالرسوم المطلوبة. وهو ما دفع العديد من الدول، كما منظمات كمنظمة الصحة العالمية، إلى المطالبة بالحد من الرسوم المفروضة، وحماية الطبقات الأشد فقرا من الإحجام عن طلب الرعاية الصحية، مع ما سينتج عن ذلك من نتائج صحية واجتماعية وسياسية، وخيمة.
وكانت المفاجأة في انضمام البنك الدولي إلى مجموع المنادين بالتمويل الحكومي للبرامج. وبلغ الأمر برئيس البنك وصفه رسوم استخدام الرعاية الصحية بأنها “غير عادلة وغير ضرورية”.
لكن توفير الأموال اللازمة لتمويل البرنامج ليس كافيا وحده، إذ لا بد من إدارة هذه الأموال بكفاءة ونزاهة عاليتين، تكفلان الاستخدام الأمثل للموارد، وخفض المصاريف الإدارية، وكبح جماح تضخم ميزانية الصحة من خلال وضع ضوابط تحد من الإفراط في تقديم الخدمة.
في أي نظام صحي، هناك ثلاث قوى رئيسة تتصارع فيما بينها للظفر بالنصيب الأكبر من كعكة الموارد المالية، هي: الحكومات التي تسعى إلى تغطية المواطنين كافة بأقل تكلفة؛ والمواطن الساعي إلى الحصول على أكبر عدد من الخدمات بجودة عالية، غير عابئ بالكلفة، ما لم تمسه بصورة مباشرة؛ ومقدمو الخدمة الذين يحاولون تعظيم أرباحهم، أو الحد من خسائرهم على أقل تقدير.
لقد اختبرت الدول العديد من أنظمة الدفع لمقدمي الخدمة، لكل منها إيجابياتها وسلبياتها. لكن الأفضل بينها تلك التي تقوم على الأداء، بحيث يُدفع لمقدم الرعاية بناءً على مخرجات الأداء، من خلال مؤشرات صحية يمكن قياسها، ومقارنتها بين مختلف مقدمي الخدمات المشابهة. فيتم الدفع لكل منهم حسب موقعه على سلم النتائج.
وهناك وسيلة أخرى بدأت تكتسب المزيد من المؤيدين، هي “الرعاية الخاضعة للمساءلة”؛ إذ يخضع مقدمو الرعاية مجتمعين للمساءلة عن تحقيق مجموعة من النتائج المقررة سلفا لفئة سكانية محددة، وبتكلفة متفق عليها. وهذا ما سيدفع مقدم الخدمة إلى التركيز على الرعاية الصحية الأولية، والطب الوقائي، والكشف المبكر عن الأمراض غير السارية، وبما سيؤدي إلى الانتقال من نظام يقوم على النشاط إلى آخر تحكمه النتائج.
بإمكان الدول اعتماد أي من طرق الدفع التي تلائمها. لكن الأمر الذي يحظى بالإجماع، هو ضرورة تقليل الاعتماد على الدفع المباشر عند تقديم الخدمة -لأنه يشجع على الإفراط في تقديم الخدمات للقادرين على الدفع، على حساب غير القادرين- واستبداله بالدفع المسبق. كما ينصح بالعمل على تجميع المخاطر، بحيث يقوم القادر بدعم غير القادر، والشاب بدعم الشيخ، والصحيح بدعم العليل؛ فالأيام دول.