الشعبويون واليمين والقدرة على التغيير

06/05/2017
يطرح الصعود الكبير للشعبوية السياسية وقوى اليمين المتطرف في أميركا واوروبا في السنتين الاخيرتين ووصولها احيانا الى موقع القرار مسألة قدرة مثل هذه الظواهر على تنفيذ وعودها، وإحداث تغييرات جذرية في الدول والمجتمعات الديمقراطية. وبانتظار نتائج الانتخابات الفرنسية المفصلية، ننظر الى الجانب الغربي من الأطلسي حيث أنهى الرئيس الاميركي دوناد ترامب المئة يوم الأولى على تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة، وكالعادة في أميركا والديمقراطيات الأخرى، فقد قام الرأي العام والسياسيون والمتابعون بتقييم هذه الفترة القصيرة والمثيرة من عمر الرئاسة الاميركية، وقاموا برصد الوعود الانتخابية، وعرض التقييمات المختلفة التي حظيت بتغطية واسعة في مختلف أشكال الاعلام الحديث والتقليدي.

ولا نسعى هنا للحكم سلبا أو ايجابا على المائة يوم الأولى من حكم الرئيس ترامب، ولكن نحاول أن نلتقط بعض الاشارات حول قدرة الخطاب الشعبوي والطروحات المغايرة للتيار العام على الصمود واحداث تغييرات اجتماعية وسياسية واقتصادية جذرية في الدول التي تمتلك تقاليد ديمقراطية راسخة، ومدى مقدرة مؤسسات الدولة من قضاء وإعلام وحكم محلي ومجالس تشريعية ومؤسسات وقوى المجتمع في كبح جماح التوجهات المغالية أو المتسرعة للظاهرة الشعوبية المتطرفة.

سجل المتابعون تراجع ترامب عن كثير من وعوده الانتخابية الصارخة في الايام المئة الأولى، ففي مجال العلاقات الدولية خفت الحديث عن قضايا كانت في لب حملته الانتخابية مثل “سور المكسيك العظيم”، و”اعادة التفاوض حول الاتفاق النووي مع ايران” و”الرجوع عن تطبيع العلاقات مع كوبا” و”نقل السفارة الى القدس”. وفي المجال الاقتصادي تم التخفيف من مدى “المراجعة لاتفاقية النافتا” والتوقف عن “معاقبة الصين بشأن العملة” وغير ذلك من قضايا داخلية وخارجية طرحت على نحو مثير وتم التراجع عنها أو إفراغها من مضمونها الجامح، ما يثير قدرا كبيرا من الشك حول امكانية تطبيق المشاريع الشعوبية أو ذات الطابع المتطرف بالسرعة والسهولة التي يأمل بها أصحابها، ويقدمونها في وعودهم لجمهورهم على أنها امور يمكن تحقيقها بغير كثير عناء، حتى ان ترامب نفسه اعترف بالصعوبات التي يواجهها وقال ببساطة “لقد كنت أحسب أن الأمور ستكون أسهل”.

أيدت هذه التراجعات ما ذهب اليه الكثيرون من أن القوى السياسية والافراد يصبحون أكثر ميلا للاعتدال والوسطية عندما يصلون الى السلطة، سواء من ناحية عقلنة الخطاب او الممارسات، خصوصا حينما يتعاملون مع العالم المتشابك من حولهم، عندها يصبح الخطاب القومي الانعزالي عبئا وعقبة في طريق حل المشاكل المزمنة أو العارضة، فيتم الانتقال التدريجي من الخطاب الشعبوي المتطرف الى الواقعية السياسية.

ورغم الاعتراف على نطاق واسع بأن الناخبين في الغرب عبروا باختيارهم اليمين المتطرف عما هو أكثر من الاحتجاج على المؤسسة السياسية والنظام، الا أن هنالك دعوات متعددة لمد جسور أكبر بين الجماعات السياسية، ويرى هؤلاء أن الشعبوية الحالية ليست أكثر من موجة عابرة تعبّر عن غضب سيبلغ مداه ثم يهدأ، فغرب ما بعد الحرب العالمية الثانية تشكل على أساس مناهضة الفاشية، ولا يمكن أن يمضي بعيدا -بحسب هؤلاء- في يمينيته، فهو غير معتاد على مثل هذا اللون من الحياة، فاليمين المتطرف ما يزال يثير فزع شريحة واسعة من الناس التي لن تسمح لأي كان بسلبها المكتسبات التي حققتها بعد الحرب.

وجد اليمين المتطرف في المزاج السلبي تجاه سياسات العولمة وما آلت اليه تربة خصبة لخطابه الشعبوي والعنصري كما استغل فشل أحزاب التيار العام في حل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليست الهجرة الا واحدة منها فقدم نفسه بدور المنقذ الذي سيعيد للدول حدودها وللأمم هويتها وللشباب وظائفهم المهاجرة لكنه سرعان ما اصطدم بحقيقة ان هذه المشاكل أعقد من أن يحلها من خلال أمر تنفيذي او تشدد هنا وتعسف هناك.

إن مئة يوم من حكم الولايات المتحدة هي مدة غير كافية للحكم على امكانية تنفيذ وعود الرئيس، أو فيما اذا كان الرئيس سيستمر في خفض حدة خطابه وسقف توقعاته، ولكنها قدمت مؤشرات واضحة على البون الشاسع بين الاتّكاء على الخطاب الغرائزي المتطرف وبين وضعه على محك الواقع من أجل إيجاد حلول ملموسة للمشاكل المزمنة.

ستقدم الأيام القادمة من وجود اليمين المتطرف في السلطة الأجوبة على كثير من الأسئلة وفيما إذا ما سيوافق حساب الحقل حساب البيدر.