العمل خارج الصندوق
11/02/2015
لو كان مقدرا لإليزابيث هولمز، ابنة الثامنة عشرة، والطالبة في السنة الأولى بقسم الكيمياء في جامعة ستانفورد، أن تولد وتعيش في أحد بلداننا، لكان حلمها سينصب على الحصول على شهادة جامعية تحجز لها مكانا على حائط مكتظ بمثيلاتها في صالون البيت؛ وبقليل من الحظ والواسطة، وظيفة تدر عليها دخلا؛ وإن تيسر، زوج تتعاون معه ليحملا سويا عبء الحياة.
لكنها لم تكن فتاة عادية؛ إذ رفضت أن تتكسر أحلامها على جدران الصندوق، واختارت التفكير والعمل خارجها. كان حلمها أن تخترع شيئا يغير مسار الأحداث، وأن يحدث فرقا في الحياة الإنسانية.
لطالما عانت إليزابيث، كما عانى الكثيرون من أهلها وأصدقائها، كلما دعت الضرورة الى إجراء تحليل للدم. وذلك بسبب صعوبة سحب الدم من الوريد، وكمية الدم اللازمة لإجراء الفحوصات المختلفة، إضافة إلى الوقت الطويل الضائع في الانتظار. وهذه المعاناة هي التي أدت الى إحجام حوالي 50 % ممن يُطلب منهم إجراء الفحوصات المختلفة عن إجرائها، حسب بعض الدراسات.
بدأت إليزابيث البحث عن طريقة مبسطة وسريعة تجرى بها عملية سحب الدم، من دون الحاجة إلى كمية كبيرة من الدم، وأن تكون هذه الطريقة متوفرة للناس وقريبة من أماكن تواجدهم.
كان قراراها جريئاً بأن تترك الجامعة التي رأت فيها عاملا حادا للطموح، ولتوفر الرسوم الجامعية التي يدفعها أهلها لتستخدمها في الإنفاق على أبحاثها. كما أنها حصلت على دعم أستاذها، بتزكيتها لدى بعض المستثمرين في مجال الابتكار.
وقد توصلت إليزابيث إلى طريقة ثورية في مجال التحاليل المخبرية. إذ بإمكانها استخدام قطرة واحدة أو قطرتين من الدم لإجراء أكثر من مئة تحليل مختلف؛ من قياس نسبة الكوليسترول في الدم، إلى بعض الفحوصات الجينية المعقدة، وذلك باستخدام طريقة مبتكرة اعتبرتها من أسرار الصناعة، رفضت الكشف عن تفاصيلها.
كما أنها استطاعت، بهذه الطريقة، خفض كلفة بعض الفحوصات إلى أقل من العُشر، بحيث يمكن لأي مواطن التوجه إلى أقرب صيدلية توفر هذه الخدمة، حيث تؤخذ قطرة من دمه وتوسم إلكترونيا، ليتم ارسالها بواسطة سيارة مخصصة لهذه الخدمة إلى المختبر المركزي للشركة، والحصول على النتيجة خلال ساعات.
لقد تجاوزت القيمة السوقية للشركة التي تملك إليزابيث أكثر من نصف أسهمها، الثماني مليارات دولار. ويجلس في مجلس أمنائها أصحاب أسماء كبيرة، مثل جورج شولتز، وهنري كيسنجر، ورئيس كليفلاند كلينيك. وتتطلع الشركة إلى أن تتمكن من إجراء أكثر من مليون تحليل مخبري هذا العام، بحيث تغطي كل الولايات الأميركية.
لم أورد هذه القصة للتسلية، وإن كانت المتعة حاضرة؛ وإنما للكم الكبير من الدروس المستقاة منها، بدءا من أن النجاح والتفوق يقاسان بالإنجاز وليس بورق مقوى يحتل مساحات في مكاتبنا، ثم ما يمكن أن نحققه عندما نجعل صالح الإنسان وراحته في مركز اهتمامنا، وصولاً إلى الدعم الذي يحصل عليه المتفوقون في الغرب من أساتذتهم ومجتمعاتهم، مقابل العصي التي توضع في دواليب أقرانهم في دولنا.
ما يزال البون شاسعا بينهم وبيننا، اتساع المسافة بين قطرة الدم التي تحدث ثورة وتصنع ثروة، وبين الثروات التي تهدر لإدامة تدفق شلالات الدم على امتداد خريطة هذا الوطن المنكوب.