صحوة البراكين الساكنة
فبراير 7, 2020
مصحة للأمراض العصبية منسية في منطقة برونكس في نيويورك، وعشرات المرضى مجمدون في وضعية ثابتة كما لو أن الزمن قد توقف بهم عند لحظة زمنية ما وغادر ونسيهم على وضعيتهم في حالة سُبات كهفي، لنكتشف لاحقا أنهم ضحايا مرض غامض اجتاح المنطقة أصاب الدماغ وخَلَّف ملايين الضحايا بين ميت، وميت وحي، أقرب الى التماثيل منهم الى البشر .
يصف طبيب الأعصاب والكاتب الشهير اوليفر ساكس حالات مرضاه في كتابه الاستيقاظ الذي يعتبر أحد أهم الكتب الطبية الأدبية، وهم مسمرون طوال اليوم بلا حركة أو كلمة أو حتى رغبة أو طاقة، منسيون يحلمون بالعالم الذي تركوه قبل أربعة عقود، لكنهم بقوا حبيسي تلك اللحظة كما لو كانت اليوم .
لم يكسر هذا الجمود السرمدي الا طبيب أعصاب شاب ساقه القدر ليقتحم عالمهم مُحاولا أن يفهمهم كأشخاص متفردين لكل منهم قصته ومشاعره من خلال التواصل الإنساني والذي لم يكن مألوفا في تلك المصحة المبتلاة بمرض التعود الذي يصيب معظم المتعاملين مع أصحاب الأمراض المزمنة، فلم يكن هؤلاء المرضى في نظرهم سوى “براكين ساكنة” على حد وصف الكاتب .
بقيت هذه البراكين ساكنة الى أن ثارت فجأة بفعل علاج ثوري جديد قديم كان يستعمل في علاج مرض باركنسون، لكن نتيجة تجربته على هؤلاء المرضى من قبل د. ساكس كان صادما للجميع ففجأة دبت الروح في هذه التماثيل التي تحولت الى براكين هائجة متمردة على المشفى والأطباء والنظام، يحدوها توق جارف الى الحياة التي طالما حلموا بها ولم يحظوا بفرصة عيشها.
لكن ككل اللحظات الجميلة في الحياة والتي لا تعمر طويلا لم يلبث هذا الحلم أن تلاشى على وقع ظهور أعراض جانبية غير محتملة جعلتهم يتمنون العودة الى جمودهم السابق، فلم تلبث براكينهم أن تبرد وثورتهم أن تهدأ وليكون نصيب ساكس النبذ والطرد ليعود الينا كاتبا ملء السمع والبصر يروي هذه التجربة الانسانية الفريدة.
طبيا كان هذا الكتاب صرخة لأنسنة مهنة الطب والتي لا تستمد قوتها من التقدم التكنولوجي فقط وإنما في العودة الى البدايات في التواصل الانساني ، فمع التقدم العلمي والتكنولوجي بمخابره الحديثة وأجهزته العملاقة ضمرت مهارات التواصل بين الطبيب والمريض ووقفت هذه التكنولوجيا سدا بين الطبيب ومريضه، ونجد أدلة على ذلك حتى في مصطلحاتنا الطبية المتداولة فالمريض أصبح حالة ، وحلت الأرقام محل العلاقات الإنسانية، واختفى التفرد الشخصي للمريض لصالح القيم المتوسطة لمجموعة من المرضى .
في هذه القصة يناقش ساكس أسئلة المرض والعافية والمعاناة والوحدة لحياة بُعثت ولو للمحة بفضل إصرار شخص رفض الاستسلام لما رآه الآخرون مسلمات، من خلال ايمانه بالقوة الهائلة والكامنة في ارادة الحياة والرغبة في التحرر.
بعيدا عن حادثة التهاب الدماغ الغامض الذي اختفى كما بدأ فجأة، فقد لفت انتباهي وجه الشبه بينها وبين الصحوة القصيرة التي أصابت البراكين الساكنة في منطقتنا التي وجدت نفسها تثور من حيث لم ينتظرها أحد ، وتتمرد على الواقع والمسلمات لكن الأعراض الجانبية للدواء والرياح الهوجاء لم تلبث أن حاصرتها وكتمت ثورتها لتعيدها الى نومها الكهفي ولو الى حين .