ظاهرة برادلي أو “التقية الانتخابية”

16/11/2016

سيسيل الكثير من الحبر في بحث وتحليل ظاهرة أو ما سمي بـ”تسونامي” ترامب وسيحاول الباحثون سبر غور الأسباب الحقيقية التي قلبت موازين القوى لصالحه، لكنني أقف هنا عند ظاهرة جديرة بتسليط الضوء عليها لأنها تتجاوز الانتخابات الأميركية لتنسحب على كثير من استطلاعات الرأي في مختلف دول العالم، وهي ظاهرة التباين الفاضح بين نتائج استطلاعات الرأي ومخرجات صناديق الاقتراع. ترى ما الذي أدى الى هذا الفشل الذريع لمراكز مهمة في استقراء النتيجة؟ فجميع مراكز استطلاع الرأي أشارت الى تفوق كلينتون في معظم إن لم يكن جميع الولايات المتأرجحة. حاول البعض اتهام هذه المراكز بالتحيز، لكنها مراكز تتمتع باحترافية عالية ولا يمكنها أن تضحي بسمعتها، كما أن تلك المحسوبة على الجمهوريين مثل “فوكس نيوز” لم تشذ عن القاعدة.

لتفسير هذا التناقض دعونا نعود للتاريخ قليلا، وتحديدا انتخابات حاكم ولاية كاليفورنيا عام 1982، فقد ترشح لهذه الانتخابات عمدة لوس انجلوس توم برادلي ذو الأصول الافريقية مقابل مرشح ابيض عن الجمهوريين، في ولاية تعتبر من اعتى حصون الديمقراطيين ولكن يغلب على سكانها العرق الابيض. خلصت جميع استطلاعات الرأي قبل واثناء العملية الانتخابية الى تقدم برادلي وبفارق كبير حتى أن البعض سارع لإعلانه فائزا قبل اغلاق صناديق الاقتراع ولكن ساعة اعلان النتيجة صدم الجميع بفوز منافسه الأبيض.

خلص الباحثون الى ان نسبة كبيرة من الناخبين قاموا بالكذب على المستطلعين وعلى أنفسهم حيث تظاهروا بالتصويت لبرادلي لكنهم عندما اختلوا بالصناديق خلف الستارة كانوا اكثر انسجاما مع حقيقة دواخلهم ورغائبهم فوضعوا الاسم الذي يماثل لونهم ليظهر بعدها مصطلح اشتهر في السياسة الأميركية باسم عامل برادلي (Bradley effect). صحيح ان كلنتون ليست من أصول أفريقية وقد لا تقل “بياضا” عن منافسها ولكن حقيقة وصم ترامب ومؤيديه بالعنصرية حدت ببعض جمهور الناخبين الى النأي بأنفسهم عنه حتى لا يتم وسمهم بالعنصرية حتى ولو بينهم وبين أنفسهم.

يطلق علماء الاجتماع على هذه الظاهرة “الانحياز للمقبول اجتماعيا” أو social desirability bias . وهي ان لا يعبر الانسان عن رأيه الحقيقي وانما يحاول التماهي مع ما يعتبر مقبولا اجتماعيا او اخلاقيا وهذا السلوك الاجتماعي يعتبر المعضلة الاخطر التي تواجه استطلاعات الراي في مختلف دول العالم.

قد لا يعني “الكتلة الصلبة” المؤيدة لترامب أن توصم بالعنصرية لكن هنالك نسبة من الناخبين يهمهم أن لا يضبطوا متلبسين بتأييد شخص لا يأنف من التبجح بكراهية واحتقار الاخر.

قد نتفهم ان يقوم مواطنو الدول التي تحجر على حرية التعبير وتحاكم الناس على أفكارهم وميولهم السياسية باعتماد مبدأ “التقية السياسية” وذلك بالتستر على حقيقة معتقداتهم ومذاهبهم الفكرية والسياسية خشية الملاحقة والتضييق عليهم، لكن ان نجد هذا يحدث في أعتى الديمقراطيات وفي الدول التي تنظّر للحرية الفردية فذلك أمر يستحق التوقف عنده طويلا.