عقول فتية.. لكنها مضطربة

05/08/2015
في عالم بات يتسمُ بالقسوة المفرطة، حيث مناظر القتل والتدمير والتهجير تطغى على المشهد وتغلفه بالسواد، وهو مشهد طال مكوثه في منطقتنا، وحفر آثاره العميقة في حياة الأجيال المتعاقبة؛ وفي الوقت الذي ينشغل فيه العالم بعدّ الضحايا وإحصاء الجثث، يغفلُ الجميع الجانب النفسي الذي يخلفه هذا الواقع في حياة البشر، وخاصة الأطفال منهم، الذين يتعرضون لليتم والتشرد، فيصبحون هدفاً سهلا للاستغلال الجسدي والجنسي، وبما يترك فيهم بدوره تشوهات نفسية قد يصعب شفاؤها.

يشكل الأطفال والشباب دون سن الثامنة عشرة حوالي ثلث سكان العالم. وتزيد هذه النسبة في الدول النامية، بما يجعلهم الفئة الأكبر في الهرم السكاني. ووفقا لإحصاءات منظمة الصحة العالمية، فإن حوالي 10 % من هؤلاء (أي قرابة 220 مليون نسمة) يعانون من اضطرابات نفسية يمكن تشخيصها، أبرزها القلق والاكتئاب واضطراب السلوك. وهي المشكلة التي لا تختص بدولة دون أخرى، لكنها تزيد بصورة ملحوظة في المناطق التي تشهد الحروب والكوارث الطبيعية. كما تشير التقديرات إلى أن حوالي 20 % من أمراض الأطفال ناتجة عن اعتلال نفسي لا جسدي.

ويزداد الأمر خطورة إذا ما علمنا أن أكثر من نصف الاطفال الذين يعانون أمراضا نفسية في طفولتهم سيحملونها معهم عندما يكبرون. ومن المرجح أن ينعكس هذا على وضعهم المعيشي، بحيث تكون حياتهم بائسة وتعيسة. وأشارت دراسة لافتة، أجريت في المملكة المتحدة، إلى أن العامل الأهم الذي يحدد نجاح الأفراد البالغين هو صحتهم النفسية في مرحلة الطفولة، أكثر من ذكائهم أو تحصيلهم الدراسي. كما تشير الإحصاءات إلى أن 90 % من الذين يقدمون على الانتحار يعانون من أمراض نفسية، علاوة على استعداد هذه الفئة لارتكاب الجرائم وتعاطي المخدرات.

ولا يجب إغفال الأثر البالغ لهذه الفئة على اقتصاد الدول؛ من حيث الإنتاجية المتدنية، والتغيب عن العمل، وكلفة الرعاية الصحية. إذ تشير بعض التقديرات إلى أن أثرها (هذه الفئة) السلبي على إجمالي الناتج المحلي في الدول المتطورة يبلغ حوالي 5 % منه.

يأتي هذا كله في ظل إهمال الدول، وعدم مقدرتها على توفير الرعاية النفسية للأطفال، والتدخل مبكراً لعلاج الأمراض النفسية حيث احتمالية الشفاء أكبر، لأن تركيب دماغ الأطفال يتيح لهم مقدرة كبيرة على التكيف مع المؤثرات السلبية والإيجابية.

وإذا علمنا أنه في الدول الغنية يتلقى ربع الأطفال فقط من المصابين باضطرابات نفسية، الرعاية المناسبة، فما بالك بالدول النامية، التي تعاني من نقص الكوادر المؤهلة للقيام بهذا الدور، وانسحاب الأسرة من ممارسة دورها، وغياب الإرشاد النفسي الحقيقي في المدارس، أضف إلى ذلك الوصمة التي تلازم هذا المرض، ما يجعل الناس يحجمون عن التحدث عنه؟

في الوقت الذي ينشغل العالم بإحصاء الضحايا ولمّ الأشلاء، يغفل عن قنبلة بشرية تنتظره بعد أن تهدأ نيران المدافع، متمثلة في جيل مشوه نفسياً، سيكون تربة خصبة للانحراف بكل ألوانه، ما لم تتنبه الدول لخطورة الوضع، وتضع له حلولا ناجعة.