لا عزاء لـ”الحرة”

٢٠٢٥/٤/١٤م

د. عاصم منصور
عندما كنت طالبًا في الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن الماضي، كنت شاهدًا على ظاهرة مثيرة للاهتمام كيف كان الناس يستمعون بالسِّر للمحطات الإذاعية الأميركية الموجهة لهم باللّغة الروسية؟ كانت هذه المحطات مثل: «راديو صوت أميركا» بمثابة نافذة صغيرة على العالم الخارجي، تقدِّم رواية مختلفة عن تلك التي كانت تروِّجها وسائل الإعلام السّوفييتية. كان الاستماع إلى هذه المحطات محفوفًا بالمخاطر؛ لكنه كان أيضًا مصدرًا للفُضول والمعرفة؛ حيث كانت تقدّم أخبارًا وتحليلات تتحدى الرِّواية الرّسمية وتفتح آفاقًا جديدة أمام المستمعين.

لم تكن هذه المحطات مجرَّد وسائل إعلامية عادية، بل كانت أدوات استراتيجية في الحرب الباردة، فقد كانت الولايات المتحدة تُدرك أهمية الإعلام في تشكيل العقول وكسب القلوب؛ ولذلك استثمرت في إنشاء منصات إعلامية موجهة بلغات مختلفة، تستهدف شعوب الكتلة الاشتراكية. كانت الرسالة واضحة في تقديم صورة عن «الحرية والديمقراطية الأميركية» لشعوب كانت ظمآى للحرية والديمقراطية، وفي الوقت نفسه، تسليط الضوء على التحديات والمشاكل التي تواجه الأنظمة الشُّمولية.

لقد كان هذا النوع من الإعلام «البروباغاندا» يهدف إلى التأثير على الرأي العام في الدول المستهدفة ويحاول زرع بُذور الشّك في الأنظمة الحاكمة، ويقدم البديل الغربي لها. ورغم أن هذه المحطات كانت تُتَّهم بالتَّحيُّز أو التلاعب بالمعلومات؛ إلا أنّها لعبت دورًا كبيرًا في تشكيل وعي الشعوب وإحداث تغييرات سياسية واجتماعية.

في سياقٍ مُشابِه؛ جاءت قناة «الحرّة» كجزء من الجهود الأميركية لتوجيه رسائلها إلى العالم العربي، فقد أُطلقت القناة في العام 2004 في خِضم ما عُرف بـ»الحرب على الإرهاب»، بهدف تقديم رواية أميركية للأحداث، ومواجهة ما كانت تعتبره واشنطن «تشويهًا» لصورتها في الإعلام العربي.

لقد ركّزت القناة على قضايا الديمقراطية وحُقوق الإنسان؛ لكنها واجهت انتقادات واسعة بسبب انتقائيتها في تغطية الأحداث وتبني وجهة نظر أُحاديّة تجاه قضايا المنطقة، وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ مما أثار تساؤلات حول مصداقيتها واستقلاليتها.

وعندما وصل دونالد ترامب إلى السُّلطة، كان لديه رُؤية مختلفة تمامًا للإعلام سواء الداخلي أو الخارجي، فترامب الذي كان دائم الانتقاد للإعلام الأميركي ووصفه في أكثر من مناسبة بـ»عدو الشعب» لم يكن يؤمن كثيرًا بفكرة الإعلام المُوجّه للخارج؛ فبالنسبة له كانت هذه القنوات تُمثِّل عِبئًا ماليًا دون عائدٍ ملموس؛ كما أنَّ فلسفته السِّياسية كانت تميل إلى الانعزالية وتقليص التَّدخل الأميركي الناعم في شؤون الدُّول الأخرى والاستعاضة عن الدبلوماسية الناعمة بأخرى خشِنة، وهو ما انعكس على قراره بإغلاق قناة الحُرّة.

قرار ترامب هذا يمكن قراءته من زوايا عدة؛ فمن الناحية الاقتصادية يسعى ترامب دائما لتقليص الإنفاق الحكومي، ومن هذا المنطلق يعتبر أن تمويل قناة لا تُحقّق تأثيرًا كبيرًا هو إهدار للمال العام. ومن الناحية السِّياسية، كان ترامب يرى أن الإعلام المُوَجَّه لم يعد أداة فعّالة في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث يُمكن لأي شخص الوُصول إلى المعلومات من مصادر مُتعددة وبِكُلفة أقل.

لكن هذا القرار أثار جدلًا واسعًا؛ فبينما رأى فيه البعض خطوة منطقية في ظل التغيرات التكنولوجية والإعلامية؛ اعتبره آخرون تراجُعًا عن دور الولايات المتحدة كقوة ناعمة تسعى للتأثير على العالم من خلال الأفكار والقيم؛ لكن الوحيدين الذين لم يلتفتوا للأمر هم أبناء المنطقة الذين رأوا في وجود القناة وعدمه سيان.

إغلاق قناة الحُرّة يثير تساؤلات أعمق حول مستقبل الإعلام المُوجّه في عصرنا الحالي، وهل ما تزال هناك حاجة إلى مِثل هذه القنوات في ظل وُجود الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي؟ أم أنَّ هذه الأدوات أصبحت جزءًا من الماضي؟