منظومة الأخلاق في وقت الأزمات
01/05/2017
وجدت في الإجازة فرصة للإبحار بين دفتَي كتاب أهداني إياه أحد الأصدقاء، ويحمل عنوان “خمسة أيام في مستشفى ميموريال”، للطبيبة والكاتبة شيري فينك، تصف فيه الأيام التي تلت إعصار “كاترينا”، الذي ضرب مدينة “نيو أورلينز” الأميركية في عام 2005.
تُسهب الكاتبة في وصف تفاصيل الأيام الخمسة التي قضاها الأطباء والممرضين والمرضى في المستشفى، بعد أن غمرته مياه الفيضان المختلطة بمياه الصرف الصحي، ما أدى إلى تعطل مولدات الكهرباء الاحتياطية؛ فغرق المستشفى في ظلام دامس، وتعطلت الأجهزة الحيوية وأجهزة التكييف، وتحول المستشفى إلى مستنقع آسن، تختلط فيه المياه الملوثة بالفضلات البشرية وفضلات الحيوانات، فيما أصوات الأعيرة النارية تُسمع بوضوح في الشوارع المجاورة، بعد أن أحكمت العصابات سيطرتها على أجزاء واسعة من المدينة، فتشتت العاملون بين خوفهم على سلامتهم الشخصية وسلامة عائلاتهم، وبين واجبهم تجاه مرضاهم.
يتناول الكتاب عدة محاور، لكن أهمها هو مناقشة خياراتنا الأخلاقية في الظروف الاستثنائية وفي وقت الأزمات.
فالأطباء والممرضون عملوا أياماً طويلة بعد أن خذلهم الجميع، معزولين عن العالم، في ظروف أعادتهم إلى القرون الغابرة، وفوق ذلك وجدوا أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ قرارات أخلاقية لم يختبروها من قبل، تتعلق بمصير مرضاهم، بدءاً من تحديد الأسس الناظمة لأولوية إخلاء المرضى، ومن منهم يتوجب إخلاؤه أولاً، وكان الاجتهاد البدء بأولئك الأفضل وضعاً، والذين يمتلكون فرصة أكبر للنجاة على حساب أصحاب الأوضاع الحرجة والأمراض المستعصية، كما وُجهت اتهامات لبعض الأطباء والممرضين بحقن عدد من المرضى المحتضرين بجرعات قاتلة من المورفين لتخفيف آلامهم، وعدم تركهم فريسة للعصابات التي قد تقتحم المستشفى بحثاً عن الأدوية المخدرة.
وبالفعل، خضع بعض العاملين في المستشفى للمحاكمة فيما بعد بتهمة القتل العمد، لكن المحلفين لم يدينوهم، بل إنهم حصلوا على تعاطف شعبي كبير؛ إذ اعتبرهم البعض أبطالاً، بعكس حالة السخط العارم الذي صبه الناس على السلطات، مما يدل على تقدير الناس للإخلاص في العمل، حتى لو كانت الخيارات إشكالية.
تطرح الكاتبة هنا العديد من الأسئلة الخلافية والشائكة، تتعلق بالبعد الأخلاقي لمهنة الطب: أولها، مدى عدالة محاسبة أناس تركوا عزلاً في وسط معركة غير متكافئة مع الإعصار؛ إذ لم يتسلحوا بالأدوات الضرورية لمواجهته، بل ولم يتلقوا التدريب الملائم لذلك.
كما تطرح إشكالية التصرف واتخاذ القرارات عندما يتصادم العقل مع القلب، والتعاطف الإنساني مع القانون والمعتقدات الدينية، والقناعات الشخصية مع القواعد المهنية، ثم هل من العدل أن نتخذ قرارات مهمة تخص حياة الآخرين بناء على ما كنا سنختاره لو كنا مكانهم؟ وهل النوايا الطيبة تعفي الإنسان من المساءلة القانونية؟
وأخيراً، هل من العدالة بمكان محاكمة خيارات الناس الأخلاقية ونحن نجلس خلف مكاتبنا الوثيرة ننعم بكل وسائل الرفاهية؟
قصص المآسي والكوارث تشدنا؛ لأنها تجعلنا نختبر خياراتنا الأخلاقية فيما إذا وُضعنا في ظروف مشابهة، وهل ستصمد قيمنا إذا ما وضعت على المحك، أم ستطغى الأنانية وغريزة النجاة الفردية؟ فالظروف الاستثنائية تكشف عمق التزامنا الأخلاقي، وحجم الفجوة بين التنظير والتطبيق.
إذا كانت دولة عظمى كالولايات المتحدة التي تحكمها قوانين وأنظمة راسخة قد فشلت في اختبار مواجهة هذه الكارثة، فإني أدعو الله ألا يختبر جاهزيتنا حتى بما هو أقل منها؛ لأن النتائج قد لا تكون سارة.