“نتلاقى على النت”
16/09/2015
في زمان غابر، عندما كان للمدارس قوانينها الصارمة، وللمعلم مكانته وهيبته، كان إذا ما حدث سوء فهم أو خلاف بين طالبين، ينتهي الأمر أحياناً بتهديد أحدهما للآخر بقوله: “نتلاقى على الحَلّة”، والمقصود بها “الترويحة”.
وفعلاً، ما إن يصبح الصبية خارج أسوار المدرسة، حتى تنهمر الحجارة فوق الرؤوس، من كل حدب وصوب، يشارك في إلقائها الجميع على الجميع، فلا تدري من أين أتت، ولا تعرف أي طريق تسلك لتفاديها والاختباء منها.
كما كانت أسوار المدرسة ومقاعدها بمثابة الأماكن المثالية لتصفية الحساب الذي لم تحسمه الحجارة، وذلك بالكتابة عليها للتعبير عن كل ما لا تستطيع قوله أو الإفصاح عنه مواجهة، إذ تخشى عاقبة ذلك.
فكثيرا ما كانت تنهمك إدارات المدارس، بداية كل عام دراسي، بإلزام الطلبة بحفّ المقاعد في الصفوف بورق الزجاج، في محاولات، قد تكون مجدية، لطمس بعض العبارات النابية. أو يتم طلاء الأسوار لإخفاء ما علق عليها من قاذورات مكتوبة، تطال الأعراض حتى الدرجة الخامسة، وتقلق راحة عظام الأسلاف في قبورهم.
دارت الأيام، وتقلصت مساحات الأراضي المفتوحة، فنضبت الحجارة ليحل مكانها الإسمنت. كما تغيرت المقاعد الدراسية. لكن لم يعدم بعضنا الأماكن التي يستنسخ فيها دواخل ذواته، وينفس على أسطحها عن عقده النفسية؛ فوجد ضالته في التكنولوجيا والإنترنت، وضمنها وسائل التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، فحولها أولئك إلى مكبّات قمامة يلقون فيها قطران قلوبهم، وعفونة عقولهم بعد أن فاض بهما عالمهم الحقيقي.
إذ يكفي أن يختلف شخص مع آخر في العمل أو على خلفية اجتماعية أو سياسية أو دينية، حتى يتوعده: “نتلاقى على النت”. فتتم الكتابة بالأسماء الحقيقية حينا، وبأخرى مستعارة أحيانا كثيرة، تُستباح بها كل الحرمات، ويُمارس الكذب، واغتيال الشخصية، ضاربين من يفعلون ذلك عرض الحائط بكل المثل والأعراف والقوانين.
لقد وضعت العديد من الدول، ومن بينها الأردن، قوانين للتعامل مع هذه التجاوزات والجرائم. لكن ما يصل إلى القضاء منها قليل، وأقل منه ما يستمر حتى نهاية الشوط، إذ يعلم الجميع التعقيدات الإجرائية التي ترافق هذه العملية، ما يدفع بالكل إلى العض على الجرح بانتظار “الحجر” التالي.
تكفي جولة قصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي لتتساءل: من أين لنا بكل هذه الكراهية؟ وترى لو عاش المرحوم سعد جمعة ليرى ما هو واقعنا اليوم (الحقيقي والافتراضي)، فهل سيصر على تسمية مجتمع الستينيات بـ”مجتمع الكراهية”؟!