هموم إدارية: ومن بعدي الطوفان

26/08/2015
حدثني صديق بقصة حصلت معه عندما كان طبيبا مقيما، في بداية ممارسته للمهنة. إذ طلب من أحد زملائه الاستشاريين أن يعلمه إحدى التقنيات التي أتقنها ذاك الزميل، فكانت إجابة الأخير: لقد تعلمت هذا بجهدي ومن مالي الخاص، ولست مستعدا أن أعلمه لأحد.

ما حدث لهذا الزميل ليس مجرد حادثة معزولة، وإنما هو ظاهرة نلحظها في مختلف مؤسساتنا، وتتمثل في احتكار المعرفة؛ سواء كانت فنية أم إدارية، وعدم الاكتراث بنقلها إلى الأجيال التالية التي تضمن استمرارية المؤسسة أو القسم. والأخطر من ذلك أن بعض الأشخاص يعملون كقوى طاردة، من خلال عملية تفريغ ممنهجة لكل من يحتمل أن يشكل بديلا عنهم في المستقبل؛ فنحن ننظر إلى احتكار المعرفة في مجال ما كضامن لتفوقنا، وكورقة رابحة (جوكر) يمكننا استخدامها لتحقيق مصالح شخصية كلما دعت الحاجة، حتى لو أدى ذلك إلى تعريض المؤسسة لخطر وجودي في حال ألمّ بنا خطب، أو غادرنا مواقعنا. فالواحد منا، مهما طال مكوثه، سيأتي اليوم الذي يغادر فيه موقعه طوعا أو كرها، ووجود من يستطيع حمل الشعلة من بعدنا يشكل ضمانة لحفظ ذاكرة المكان، ونقلها إلى الأجيال القادمة.

احتكار المعرفة وعدم نقلها للآخرين، دليل عدم ثقة بالنفس ولا بالمؤسسة، ولا حتى بالقدر. فنجاح أي شخص في عمله لا يقاس بالإنجاز الفردي الذي حققه، وإنما بمدى تأثيره في الآخرين، ونجاحه في بناء حلقة جديدة تتضمن استمرارية الإرث الذي سيتركه خلفه.

على المؤسسات أن لا تترك هذا الأمر لمزاجية الأشخاص المسكونين بهاجس “في الاحتكار قوة”، بل يجب عليها وضع خطة واضحة، تضمن استمرارية العمل، بحيث لا تبقى أسيرة شخص ما أو مجموعة أشخاص؛ وذلك بتبني استراتيجية واضحة، تبدأ بتحديد المفاصل الرخوة في بنيتها، والبحث عن أشخاص مؤهلين لضمان استمرارية العطاء، وتزويدهم بالمعرفة والمهارات الضرورية، بحيث يكونون جاهزين لتحمل المسؤولية عندما يحين دورهم، فلا تبقى هذه المؤسسات أسيرة أي كان مهما سطع نجمه؛ فلا بد لهذا السطوع من أن يخبو يوما ما.