هيكل والدرس الأخير
انشغل الفضاء الإعلامي، في الأيام القليلة الماضية، بوفاة الكاتب والصحفي محمد حسنين هيكل، الذي غادر دنيانا بعد مكوث فيها جاوز التسعين عاماً.
وفي الوقت الذي اختلف الناس عليه في مماته، اختلافهم عليه في حياته، فإنني توقفت إنسانيا عند الدرس الأخير الذي اختاره الرجل، الذي طالما مارس الأستاذية على الأجيال المتعاقبة، وذلك عندما قرر أن يقول لا لمحاولات نقله إلى المستشفى، متخذاً القرار بأن الحياة تُقدّر بالنوع لا بالكم، ومخاطبا الأطباء الذين أرادوا مساعدته: “لا تقفوا بأجهزتكم ومعداتكم في وجه الموت”.
لقد علمونا في كليات الطب أن مهمتنا الرئيسة تتمحور في إنقاذ المرضى من الموت. وتسلحت مستشفياتنا بآخر ما أنتجته التكنولوجيا الحديثة لمساعدتنا على القيام بذلك. لكن أحداً لم يعلمنا كيف نساعد مرضانا على تقبّل أقدارهم، والموت بكرامة وبلا ألم، إذا ما حانت ساعة الحقيقة، ولم يبق أمل في الشفاء والعودة إلى الحياة بمفهومها النوعي لا الكمي. فالزائر لوحدات العناية المركزة في مختلف مستشفيات العالم يجدها مزدحمة بمرضى لا يرجى شفاؤهم، يتشبثون بأنابيب وأسلاك تتصل بالأجهزة التي تحاول تأخير عبورهم المحتوم إلى الضفة الأخرى.
فالأطباء يقضون ساعات طويلة في التدرب على عملية إنعاش المرضى في اللحظات الأخيرة لهم، أو ضمان تدفق الهواء إلى الأجساد التي تصارع الموت. لكن لا أحد يفطن إلى تدريبهم على ضمان سلاسة وانسيابية انتقال المرضى من الحياة إلى المحطة الحاسمة في نهاية المطاف، ألا وهي الموت.
فالكثير من الأطباء المميزين ممن يتقنون فن العيش، والقتال إلى جانب مرضاهم من أجل أن يحظوا بفترة بقاء أطول في الحياة، تجدهم يقفون مشدوهين لا حول لهم ولا طول أمام سطوة الموت؛ غير مسلحين بالمهارات والأدوات المناسبة التي تمكنهم من العبور السلس بمرضاهم نحو الأمتار الأخيرة من رحلتهم.
حتى منتصف القرن الماضي، كان الناس يتقبلون الموت كما الميلاد؛ كمحطة إجبارية من محطات الحياة. لكن تغيرا نوعيا حصل في الوعي الجمعي للناس، من خلال غرس فكرة إمكانية دحر الموت أو دفعه من خلال التكنولوجيا. فأضحى الناس يستقبلون الموت كما لو كان مفاجأة نادرة الحدوث، ويمكن تلافيها. وأصبحوا غير مهيئين لتقبل هذه اللحظة الوجودية، وأصبح الأطباء يرفضون الوقوف مكتوفي الأيدي أمامه، حتى وإن أيقنوا عبثية محاولاتهم.
إن إتقان فن العناية بالمريض في مراحل مرضه الأخيرة، لا يقل أهمية عن إتقان فنون وعلوم الطب الأخرى. ويجب أن يكون الجميع مؤهلين لتقبلها، والتعامل معها إذا ما دعت الحاجة لذلك.