المطاعيم والسياسة الدولية

لا يخفى على أحد اليوم حجم التسييس الذي مسّ جائحة كورونا، بدءا من استخدامها في الحسابات الانتخابية الداخلية للدول، أو حتى لتصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين، أو لاستخدامها للحجر على حرية التعبير والتجمع أو حتى لإغلاق بعض الملفات السياسية العالقة على الصعيدين الداخلي والخارجي. ولم تسلم المطاعيم من هذا التسييس، فقد انقسم العالم إلى قسمين، قسم منتج للمطاعيم ويريد أن يغتنم الفرصة لاستخدام الفائض منها لاكتساب مزيد من الأرض على الساحة الدولية، وقسم بلا حول ولا طول يستجدي هذه المطاعيم، وعلى استعداد لدفع الثمن إما ماديا او بالتنازل عن بعض المواقف السياسية.
لقد عمّقت المطاعيم، وغياب العدالة في توزيعها من حجم الهوّة بين الشمال الغني والجنوب الفقير، وقراءة سريعة لأعداد الحاصلين على المطاعيم في الدول المختلفة تبين لنا غياب العدالة في توزيع هذه المطاعيم، حيث تستحوذ الدول الغنية على نصيب الأسد منها، وقد نجحت هذه الدول في الاقتراب من تحقيق المناعة المجتمعية التي ستمنحها الشعور بالوصول إلى شاطئ الأمان، وفي المقابل فإن الدول الفقيرة التي تعاني من كل أشكال ضنك العيش، لا تمانع في التقاط الفتات الذي يلقى إليها فائضاً عن الحاجة لدى غيرها.
لقد كانت كل من الصين وروسيا سبّاقتين إلى استخدام المطاعيم كسلاح سياسي. فقد قامت الأولى بشراء مواقف سياسية من بعض دول أميركا اللاتينية، فيما يتعلق بقضية تايوان التي تعد حيوية بالنسبة للصين ، وتناهى إلينا بأن الصين قد وضعت شروطاً على البرازيل، تطالبها بفتح السوق البرازيلية للجيل الخامس من الاتصالات لشركة هواوي الصينية، مقابل تزويدها بالمطاعيم. أما روسيا فقد حاكت صفقة بين دولة الاحتلال وسورية أطلق عليها صفقة المطاعيم مقابل تحرير أسير إسرائيلي لدى سورية.
أما أفريقيا فتحولت إلى أرض ملعب مفضل لدبلوماسية المطاعيم بين روسيا والصين، فها هي روسيا تقدم التسهيلات للاتحاد الأفريقي لتمويل شراء 300 مليون جرعة من المطاعيم، بينما تزدحم الصحف الأفريقية بصور السفراء الصينيين وهم يستقبلون جرعات اللقاح في مطارات الدول الأفريقية، أيضاً شاهدنا صوراً لقادة هذه الدول يتلقون هذه اللقاحات، وهو ما وصفه البعض بالانقلاب الصيني الناعم في أفريقيا.
أما الهند التي فاجأتها الموجة العاتية الثانية من الجائحة، والتي كسرت من حدة نشاطها لاستخدام موقعها كأكبر منتج للمطاعيم لإعادة ترسيخ موقعها الجيوسياسي واكتساب المزيد من أراضي النفوذ في مواجهة منافستها الأبرز الصين. ورغم أن الغرب قد فضل الاستعمال الداخلي للمطاعيم على تصديرها للخارج ، فإنه ليس بريئا من هذا التسييس، فهو ينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على الخارج بعد أن يؤمن السّاحة الداخلية، فهو يتبع سياسة مختلفة عمادها طول النفس والتعويل على أن المعركة طويلة، وستمتد لسنوات قادمة، ففضل أن يدخلها بجبهة داخلية متماسكة.
لقد بدأت الأصوات تتعالى في العالم لكسر احتكار إنتاج المطاعيم ورفع حصانة الملكية الفكرية عنها واعتبارها منتجا عالميا عاما، وقد أعلن مؤخرا عن موقف أميركي يصب في هذا الاتجاه. لكن حتى لو حصل ذلك فانه لن يغير كثيرا من الواقع، حيث سيكون المستفيد الأول من ذلك دولا تحتوي على قاعدة صناعية متطورة وخبرة في إنتاج الأدوية الجنيسة، وهنا تتصدر الهند التي تعتبر صيدلية العالم ودولة الاحتلال من خلال عملاق صناعة الأدوية الجنيسة « تيفا» كأبرز المستفيدين.
لقد دخلت المطاعيم حلبة الصراع العالمي وأصبحت سلاحا فعالا يستخدم لتطويع الدبلوماسية الدولية، لكن من المستبعد أن تؤدي إلى انقلاب جذري في التموضعات الجيوسياسية حيث إن موازين القوى ستبقى على حالها، واللاعبون الأساسيون، سيتحكمون بقواعد اللعبة ولا عزاء للفقراء.