كوفيد19 ورأسمالية المراقبة

أثار التوسع في جمع بيانات ضخمة ومتنوعة ومتعددة المصادر عن السلوك البشري بهدف المساهمة في مواجهة جائحة كوفيد 19 أسئلة مشروعة وهواجس موضوعية تتعلق بالخصوصية والحريات وحقوق الإنسان، وذكّرنا ذلك بما أعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر من انتهاك واسع للخصوصية والتحلل من قيود الحريات الشخصية الذي مكّن إمبراطوريات التكنولوجيا الكبيرة من “النمو والهروب من اللوائح التنظيمية”، فليست هناك ضمانات لئلا تستغل إجراءات مواجهة الجائحة على غرار ما حصل في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر.
في بحث مستفيض بعنوان “رأسمالية المراقبة في زمن كوفيد 19 “نشرته مؤسسة” البحوث الاجتماعية المستقلة”على موقعها الإلكتروني، تناول البروفسور مارك وايتهيد الظاهرة في إطار نقدي واسع مستعيرا مصطلح “رأسمالية المراقبة الاجتماعية” والذي نحتته الكاتبة الأميركية شوشانا زوبوف في كتابها الشهير “عصر رأسمالية المراقبة” والصادر في العام 2019، وقصدت بـ”رأسمالية المراقبة” سعي الشركات العملاقة مثل جوجل وفيسبوك إلى جمع خبرات وسلوكيات البشر على شكل بيانات رقمية واستغلالها للتنبؤ بسلوكنا، والتحكم فيه، وبناء اقتصاد جديد، ووضعته في سياق أيديولوجي باعتباره “طفرة رأسمالية تتميز بتركيز للثروة والمعرفة والسلطة بصورة غير مسبوقة في تاريخ البشرية”.
فإذا كانت التكنولوجيا الرقمية قد لعبت دوراً كبيرا في التخفيف من آثار الجائحة من خلال تحريرنا جسديًا من نتائج الإغلاق بواسطة التقنيات الرقمية التي تم استخدامها لمراقبة انتشار الفيروس والسيطرة عليه، وتوفير وسائل الاتصال والترفيه عن الناس في ظل الإغلاق، إلا أن ذلك أظهر مفارقة واضحة بين المساهمة في التحرر الجسدي من تبعات الإغلاق، والمخاوف حول اختراق الخصوصية على المدى الطويل، والتوسع في رأسمالية المراقبة، والتي ارتفعت قيمتها التجارية، وتعززت أسعار أسهم أقطابها في وقت تراجع فيه الاقتصاد بشكل عام.
الأمم المتحدة بدورها أصدرت تقريرا حديثا حول الآثار المترتبة على الوباء على حقوق الإنسان، وخلصت إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة في التصدي للجائحة يمكن أن يهدد حقوق الإنسان على مستوى العالم، وأعربت الأمم المتحدة عن قلقها من أن تقنيات مراقبة البيانات المستخدمة في الأزمة الحالية “يمكن أن تصبح طبيعية في المستقبل”.
ولم تحسم التطمينات التي قدمتها الدول الغربية وشركات البيانات الكبرى الجدل المحتدم حول الظاهرة مما راكم الشكوك -غير الواقعية- حول منشأ الجائحة وإجراءات مكافحتها، ففي ظل قصور التشريعات عن احتواء آثار هذه القضية المستحدثة، فلا يمكن التأكد من أن البيانات الكبرى التي تم جمعها وتصنيفها وتحليلها في ظل مواجهة الجائحة لن توظف تجاريا ويتم “تسليعها”، فقد أثبتت التجارب السابقة أن ما يتم الوصول إليه من بيانات، نادرًا ما يتم التخلي عنه. وليس ثمة ما يضمن ألا تسلم هذه البيانات للحكومات.
تقدم الدراسات المهتمة بالحرية الشخصية صورة متوحشة لرأسمالية المراقبة، والتي تبدأ من القدرة على التنبؤ باحتياجات المستهلكين وتقديم التسويق المستهدف وتصل إلى التأثير في القرارات بفعالية مثل التصويت في الانتخابات. ولغايات الوصول إلى البيانات الشخصية تقدم شركات التكنولوجيا الكبرى طعما لا يمكن مقاومته يتمثل في الخدمات المجانية التي تجعل الحياة أسهل، مع وعود عامة بمراعاة الخصوصية والحرية الشخصية، لنبتلع الطعم بكل رضى، ثم لا تلبث هذه الشركات باستحداث تغييرات ماكرة وغامضة تتيح لها في النهاية الوصول إلى الوجهة النهائية لرأسمالية المراقبة والتي تتمثل في صناعة عالم تعرفنا فيه التكنولوجيا الكبيرة أكثر مما نعرف أنفسنا.
هذه الهواجس والمخاوف مما سمي برأسمالية المراقبة لا تخلو من مبالغات، إلا أنها تستند إلى أسس لا يمكن دحضها كلياً، لذلك تلقّف الرأي العام والنخب هذا الطرح باهتمام، وما تزال الدعوات إلى مواجهة هذه الظاهرة بتشريعات مناسبة، وتشكيل جماعات ضغط لكبح جماحها، إلا أن أكثر هذه المساعي ما تزال في طور توصيف الظاهرة والتوعية بشأنها دون تقديم معالجات شاملة تواكب تطورها.