“صائد الحيتان”: أشهر مرضى الدماغ والأعصاب

27/08/2014
لم يخطر ببال أصدقاء الشاب الوسيم “فينيس غايج”، ذي الخمسة والعشرين ربيعاً، والذي نجا من الموت بأعجوبة، أن يعود إلى الحياة بعد الحادثة المميتة التي تعرض لها؛ وأن يصبح من أشهر حالات مرضى الدماغ والأعصاب وعلم النفس تاريخياً.

ففي مطلع خريف العام 1848، وتحديداً قبل شهر من هذا التاريخ، كان غايج يواصل عمله الدؤوب كرئيس للعمال في إزالة الصخور الكبيرة من طرق السكك الحديدية في بلدة فيرمونت في الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بإحداث ثقب في الصخرة وملئه بالمسحوق المتفجر والرمل، ومزجه بقضيب معدني كبير لإحداث الانفجار وتفتيت الصخور بهذه الطريقة.

وفيما كان غايج يغرس قضيباً من الفولاذ في ثقب أحدثه في الصخر، ولسوء حظه، فاجأه دويّ انفجار كبير، قاذفاً بالقضيب الذي في يده ليخترق طرف وجهه، وعينه اليسرى، وليخرج من أم رأسه إلى مسافة تزيد على عشرين مترا مغطى بالدماء وأجزاء من دماغه.

نهض غايج بتثاقل من موقعه الذي قذفه إليه الانفجار بمساعدة من تجمع حوله من الناس، وذلك بعد دقائق قليلة من الانفجار، ورأسه ينزف بقوة، وسار على قدميه، وركب العربة منتصبا مسافة تزيد على الكيلومتر الواحد، حيث كان بانتظاره طبيب ماهر يدعى “هارلو”، والذي أشرف على علاجه في حدود التقنيات الطبية المتواضعة في ذلك الزمن. وقد خلدت هذه الحادثة اسم الطبيب لقرون عديدة، وكذلك ملاحظاته التي دوّنها، موضحاً فيها أن الرجل كان ينزف دماً ودماغاً عندما وصل إليه وتولى العناية به.

دخل الشاب في غيبوبة لمدة شهر، وساءت حاله كثيرا بعد ذلك، وبدأ يذوي شيئا فشيئا، وانتظر الأصدقاء موته. لكن مع حلول فصل الشتاء، أراد الله أن تتغير أقدار الفتى. أفاق غايج من غيبوبته، وصار يتماثل للشفاء ببطء شديد، واستطاع أن ينهض من فراشه بنفسه. ثم بعد شهر، صار يمشي على قدميه حول المشفى من دون مساعدة من أحد. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1848 أذن أطباؤه له بالعودة إلى منزله، وكان فاقداً عينه اليسرى وجزءا من دماغه.

أجمع أصدقاء غايج وزملاؤه في العمل، قبل أن يفصل منه، أنهم ليسوا أمام نفس الرجل الذي كانوا يعرفونه، والذي وصفه مديره السابق بأنه كان رجل أعمال ألمعيا، ذا عقل متزن، كثير الحيوية، مواظبا في عمله. إذ أصبح غايج بعد ذلك، وكما دوّن طبيبه، غير جدير بالاحترام، كثير التذبذب، مندفعا في رغباته، وقدراته العقلية تعادل قدرات طفل. وفوق ذلك أصبح بذيء اللسان.

وبملاحظة هذا التغير الذي طرأ على شخصيته بعد تعرضه للحادثة، انطلق، وربما لأول مرة، حديث علمي رصين حول العلاقة بين إصابات الدماغ والتغيّر في الشخصية، وأُخذت حالة غايج، بوصفها حالة مرضية نادرة، منذ ذلك الوقت طريقها الى الكتب العلمية، والدراسات والبحوث الأكاديمية المتخصصة في مجال الدماغ والأعصاب والطب النفسي والعلوم ذات الصلة. بل حظيت أيضاً باهتمام الثقافة العامة إلى حد ما. حتى إن أحد الباحثين ذكر أن 60 % من كتب المدخل إلى الطب النفسي التي راجعها في جامعات مرموقة، تحدثت عن حكاية غايج، ووصل الأمر إلى أن بعض الفرق الموسيقية لاحقا حملت اسمه.

عاش غايج بعد هذه الحادثة أكثر من أحد عشر عاماً، و انتقل في مرحلة ما من الولايات المتحدة إلى تشيلي، حيث عمل كسائق عربة خيول. وهنا ذكر تقرير مهم عن الرجل أنه استعاد قدراته العملية والاجتماعية مقارنة بالسنوات الأولى من الحادثة، وأن عمله كقائد للخيل ساهم في استعادة مهاراته الاجتماعية والشخصية. وقد بقيت حالة غايج مادة غنية للدراسة، تناولتها نقاشات أكاديمية كثيرة لإثبات نظريات وأفكار علمية متعارضة أحياناً.

لقد شكلت هذه الحادثة مصدراً غير عادي للحصول على معلومات تسهم في فهم أكثر الأجهزة صعوبة وتعقيداً وأهميةً على سطح كوكبنا. لكن بسبب التقنيات العلمية المتواضعة في ذلك الوقت، لم يصلنا إلا القليل من الأدلة والمشاهدات حول حالته، والتي لم تفصّل كثيراً في تحديد موقع وحجم الضرر والتلف الذي أصاب دماغه، وكيف نجا وعاد دماغه للعمل، بحيث تمكن من الاندماج في المجتمع مثل أي شخص طبيعي آخر، رغم الإصابة القاتلة. والطريف في الأمر أن الرجل تمكن من العيش لسنوات طويلة، رغم أنه فقد الفص الجبهي من الدماغ والتي تعرف بـ”Frontal lobe”.

مات غايج ودفن عموده معه، إلا أنه تم استخراج جمجمته وعموده الذي رافقه حتى نهاية حياته لاحقا، وحفظا معا في أحد المتاحف، ليكونا أكثر المعروضات مشاهدة في ذلك المتحف.

ولأن طرائف غايج كثيرة، فقد عرض الزوجان “ويلغس” قبل عدة سنوات، على الإنترنت، صورة قديمة لشاب فاقد لعينه اليسرى، ويحمل ما يشبه الحربة، كانا حصلا عليها من مصدر غير معروف. ولأنهما لم يتعرفا على الرجل، فقد أطلقا عليه اسم “صائد الحيتان”. ومع اطلاع زوار الإنترنت على الصورة، بين لهم مختصون أن الشاب في الصورة ليس إلا “فينيس غايج”؛ الرجل الذي عاش بما يشبه المعجزة، وبقي موضوعاً شائكاً في عالم طب الأعصاب والطب النفسي حتى يومنا هذا.