“الرعاية المسؤولة” والعبرة بالنتائج
30/09/2014
في الوقت الذي يواصل مستوى الإنفاق على الرعاية الصحية صعوده المطرد؛ سواء في الدول الغنية أو النامية، نجد أن هذا التزايد في الكلفة يفوق كثيراً النمو في الدخل الوطني ودخل الأسرة. ففي أوروبا، على سبيل المثال، وفي السنوات الأخيرة، بلغت الزيادة في هذه التكاليف ضعفي معدل النمو الاقتصادي، حيث وصلت
10 % من الناتج المحلي الإجمالي. اما في الولايات المتحدة، فقد واصل الإنفاق على الصحة صعوده، ليصل 18 % من إجمالي الناتج المحلي.
وتُعلل هذه الزيادة بعدة عوامل، منها الزيادة في معدل الأعمار، وما رافقه من زيادة عبء الأمراض غير السارية؛ والتطور المستمر في التقنيات الطبية. لكن اللافت أن هذا الارتفاع في تكاليف الرعاية الصحية لم يقابله تحسن مماثل في جودتها، إذ ما يزال هناك خلل واضح في النتائج، من حيث تباين تناسب هذه النتائج مع الإنفاق، أو التباين في هذه النتائج حتى ضمن البلد الواحد.
المعضلة التي تواجه صناع السياسات والمخططين الاستراتيجيين هي وجود قوى بأهداف مختلفة، وربما متضادة. فمن جهة، هناك مواطنون يتوقعون رعاية صحية عالية الجودة، تقابلهم حكومات تسعى إلى كبح الانفلات في ميزانيات الرعاية الصحية، ما يضعها في مأزق المواءمة بين السعي لتحسين الرعاية الصحية وخفض كلفتها. ولذلك، قام معهد تحسين الرعاية الصحية بوضع هدف ثلاثي لتحقيق المعادلة الصعبة آنفة الذكر، بحيث يتم العمل على: تحسين النتائج الصحية لفئات السكان، وتعزيز جودة الرعاية وتجربة المريض، وتخفيض حصة الفرد من تكلفة الرعاية.
لكن كل الجهود التي بُذلت في السابق انصبت على تحسين كفاءة النظم المتبعة حاليا، وضمن الأطر الموجودة، من مثل تخفيض أجور الرعاية، وضبط الأرباح، وتقييد الاستخدام. إلا أنه لم تؤد هذه الجهود الغرض الذي وجدت من أجله. فتكاليف الرعاية الصحية واصلت ارتفاعها، والفجوة بين جودة الخدمة المقدمة وبين النتائج واصلت اتساعها.
من هنا يتبين أن الحلول الجزئية لهذه المشاكل المزمنة والمركبة قد فشلت. ويتوجب على صانعي القرار النظر خارج الصندوق التقليدي، بإحداث تغيير أعمق وأوسع نطاقاً.
ومن الملاحظ أن هيكلية تقديم الرعاية الصحية في معظم البلدان تقوم على مبدأ العرض؛ إذ يقوم مزودو الخدمة بعرض جزء من الرعاية التي يحتاجها المريض، ويقبضون ثمن هذه الخدمة، بدلاً من الاهتمام بالنتائج النهائية الشاملة وبتجربة المريض، ما أدى الى تحسن جزئي في مستوى الرعاية على مستوى العنصر لا الكل.
لذلك، كان لزاما البحث عن أسلوب جديد للرعاية، يضمن الانتقال من رعاية يحركها العرض إلى أخرى يحركها الطلب أو المستهلك وليس مقدم الخدمة. ويكون فيها مقدمو الرعاية مسؤولين عن تقديم خدمة تهم المرضى والسكان بشكل عام، والانتقال من التركيز على تقديم المدخلات والنشاطات، إلى السعي لتحقيق النتائج للمواطنين، وهو ما يعرف بـ”الرعاية المسؤولة”.
وسيسمح هذا التحول في شكل ومضمون الرعاية، بالانتقال من نظام مجزأ حسب النشاط، إلى نظام أشمل تحركه النتائج. كما سيمكّن المواطنين من امتلاك صوت أقوى في تحديد أولوياتهم، وسيعاد تعريف مهمة الرعاية الصحية جوهرياً؛ فلا تعود مقتصرة على معالجة المرضى، بل أيضا على زيادة عافية السكان إجمالا، وهو ما يتماشى مع تعريف منظمة الصحة العالمية لمفهوم الصحة.
ولتحقيق هذه النقلة النوعية في بنية الرعاية الصحية، نحن بحاجة إلى توفير عدة عناصر، تبدأ باختيار شريحة معينة من السكان يكون مقدمو الرعاية مسؤولين عنها مسؤولية مشتركة، وبالتنسيق فيما بينهم. ومن ثم، يتم تحديد النتائج الصحية التي تهم هذه الفئة، والتي تصبو لتحقيقها، لينبثق عن هذه الأهداف وحدات قياس محددة بدقة، لتحديد مدى الإنجاز في تطبيق هذه الأهداف. وبناء عليها، سيتم الدفع لمقدمي الخدمة.
وهنا يقتضي التنويه إلى أن أحد الملامح المهمة في هذه المرحلة، هو وجوب ضمان آلية شفافة في إعداد التقارير عن النتائج والتكاليف الإجمالية. وهو ما بدأت بتطبيقه العديد من المؤسسات الصحية في الغرب. فبإمكان الباحث أن يجد كل هذه المؤشرات منشورة بشفافية على المواقع الإلكترونية لهذه المؤسسات. لكننا في ما يسمى بالدول النامية ما نزال بعيدين جدا عن هذه الشفافية.
ويمكن أن يتم هذا التحول في بنية الرعاية الصحية على مراحل. تُعنى المرحلة الأولى منها بحلقات الرعاية، بحيث يتم التركيز على النتائج الإجمالية، وكلفة تحقيق هذه النتائج. لكن هذه الخطوة غير كافية، لأنها تُعنى بحلقة واحدة (مرض واحد). لذلك، يجب تعميمها على مجموعة من السكان، وذلك بربط مقدمي الرعاية المنفصلين، بحيث يتم النظر إلى النتائج الخاصة بفئة سكانية كاملة وليس بحلقة واحدة من حلقات الرعايه الصحية.
إن النتائج الأولية المستقاة من المناطق التي بدأت بتطبيق هذا النوع من الرعاية، تبدو واعدة من حيث التحسن الواضح في جودة الخدمة. لكن الجانب المادي من الفكرة ما يزال بحاجة إلى دراسة ومتابعة، إذ يتطلب هذا التغيير كلفة مبدئية ليست قليلة قبل أن نبدأ بتلمس فائدة اقتصادية على المديين المتوسط والبعيد.