ليست قصة حظ
04/02/2015
لم يحظ حدث طبي بضجة وصخب إعلامي، كما حظيت بهما نتائج البحث الذي أجراه باحثان في مجال الرياضيات والسرطان من جامعة جونز هوبكنز الأميركية، ونشراه في مجلة “Science” المرموقة، قبل عدة أسابيع.
إذ لم يكد يرى هذا البحث النور بنسخته الإلكترونية، حتى تلقفه الإعلام، واحتل الصدارة على شاشات التلفزة وصفحات الجرائد، حيث عنونت له بعنوان بارز بأن سبب السرطان يكمن في حظ المريض السيئ، وليس في ممارساته الخاطئة.
لقد شكل الخبر، بصورته التي تناقلتها وسائل الإعلام، هزة عنيفة، تبعتها هزات ارتدادية للعاملين والمختصين في مجال مكافحة السرطان، الذين كانت ردود أفعالهم حاسمة وقاطعة في رفض هذه النتيجة، التي لو صحت فإنها ستهدم الأسس التي بنيت عليها مكافحة السرطان.
لقد آثرت التريث في الخوض في هذا الموضوع الى أن ينجلي الدخان الكثيف الذي أثير حوله، وإلى أن أطلع على البحث بنسخته الأصلية وأناقشه مع بعض الزملاء المختصين والمهتمين.
كل من قرأ هذا البحث يلاحظ أنه بني على أساس معادلة رياضية فذة، تهدف إلى إثبات ما كان الجميع يعرفونه؛ وهو أنه كلما زاد عدد مرات انقسام الخلايا الجذعية في العضو، زاد احتمال حدوث خلل في تكاثر الخلايا، وبالتالي إصابة هذا العضو بالسرطان. وهو أمر يمكن تبسيطه بمثل من حياتنا؛ بأنه كلما طالت مسافة الرحلة بالسيارة، زاد احتمال التعرض لحادث، بغض النظر عن الوجهة ونوع السيارة ومهارة السائق.
فالذي خلصت إليه الدراسة هو أن ثلثي الفرق في احتمالية إصابة عضو بالسرطان أكثر من عضو آخر، يمكن ردها إلى عدد الخلايا الجذعية في ذاك العضو، وسرعة انقسامها، وليس كما فُهم من قبل كثيرين؛ بأن الحظ السيئ مسؤول عن ثلثي إصابات السرطان.
لكن ما يعيب هذه الدراسة أنها استثنت اثنين من أكثر أنواع السرطانات شيوعا، وهما سرطان الثدي وسرطان البروستات. كما أنها أعطت نفس الوزن لكل أنواع السرطان التي درستها، بغض النظر عن مدى شيوعها؛ فأعطت وزنا متساويا لسرطان نادر كسرطان العظم، وسرطان الرئة الأكثر شيوعا عند الرجال.
كما أنها أغفلت ذكر النسبة المسؤول عنها الانقسام العشوائي ضمن السرطان الواحد؛ هل هي 51 % أم 99 %، أم رقم آخر بينهما؟
فسرطان الرئة، مثلا، تزيد نسبته عند المدخنين بثماني عشرة مرة عن غير المدخنين. ولا يمكن، بحال من الأحوال، أن يعزى ذلك إلى الانقسام العشوائي. كما أن سرطان عنق الرحم الذي يكثر في المجتمعات المنفتحة جنسيا، فيما يكاد لا يذكر في المجتمعات المحافظة، لا يمكن أن يعزى إلى الانقسام العشوائي أيضا.
ثم، كيف نفسر إن كان الحظ السيئ هو المسؤول عن الإصابة بالسرطان، شيوع بعض أنواعه بين شعوب أكثر من غيرها، أو الانخفاض الملموس في نسبة السرطان بين الدول التي خفضت من نسبة التدخين؟
قد يريح كثيرين منا إعلان براءتنا من تهمة التسبب بالسرطان، وتعليقه على مشجب الحظ السيئ. لكن الحقيقة غير ذلك؛ فما يزال معظم المختصين يؤمنون بأننا مسؤولون عن نصف أسباب الإصابة بهذا المرض، وهنا تكمن الفرصة السانحة لمحاربته، من دون إغفال دور الكشف المبكر في مكافحة عدد من أنواعه. وإذا ما عدنا إلى مثال السيارة الذي ذكرته آنفا: نعم، طول الرحلة مهم، لكن هناك عوامل أخرى يمكننا التحكم بها؛ مثل تحسين مهارة السائق، وصيانة السيارة، ومراعاة إشارات المرور.