العالم حين يفقد رشده
18/02/2015
قام بعض علماء النفس والأعصاب بتصميم نظارات خاصة، يرى من يرتديها العالم بالمقلوب؛ بحيث يرى مرتدو هذه النظارة اليمين يسارا، واليسار يميناً؛ والأعلى أسفل، والأسفل أعلى. وهي بذلك تحاكي الصورة المبدئية التي ترتسم على شبكية العين قبل أن يقوم الدماغ بتعديلها أو إعادة قلبها لاحقا لتبدو الأشياء معتدلة. أو هذا ما يظنه الدماغ البشري. فهل العالم (أو الفعل الإنساني فيه) مقلوب أم معدول؟
منذ عقود، تحدث مفكرون ومنظرون وسياسيون، في أماكن شتى، عن ملامح ترتسم لمشهد عالمي جديد، يبشر بحالة من النضج والرقي الإنساني، لتصرف الإمكانات والجهود والمقدرات لحل مشاكل البشرية، من فقر ومرض وجهل. وقال بعضهم إن نهاية التاريخ المنتظرة بأحداثها الكبيرة، وصراعاته وحروبه التقليدية، قد بزغت. ووضعت المنظمات الدولية أهدافا طموحة لمشهدٍ كونيّ راقٍ يتحقق فيه الرفاه الإنساني، وتتقلص الفجوة في العالم بين الأغنياء والفقراء، كما يقضى فيه على الجهل وتنهض المجتمعات الإنسانية في أماكنها.
كان هناك أمل في أن يُنفق بسخاء على العلوم والمعارف والفنون التي ترتقي بالكل الإنساني، وأن يصبح التواصل الإنساني وسيلة لكي ينتشر ويعم أفضل ما لدى البشر من أفكار، وعبارات، وصور، ومشاهد، تطوف هذه الدنيا بكل ألسنتها، فيذهب الزبد جفاءً، ويمكث الطيب والصالح، والإنساني من الفكر والذوق والثقافة. كان ثمة آمال كبيرة في أن الخيارات الحرة للإنسان المحترم والمساوي والمعادل لأخيه الإنسان، هي بوصلة حركة الإنسان.
لكننا أفقنا، فإذا الدنيا كما نعرفها! الكلمة ترسم حروفها أو تطمسها رصاصة، والمخبر ينزوي ويتضاءل تحت طائرة مقاتلة، والقلم تكسره أو تأسره العصا. والبندقية، وكلمة الشر ومشاهده، انتشرت وطغت وعمت. وليظل الإنسان محاربا أكثر منه ناطقا.
وما تزال الإمكانات البشرية تُستنزف في الصراعات، والتلويح بالصراعات والمنافسات غير الشريفة. والحروب ليست بأقل شراسة أو ظلما مما سبقها، والأهداف الإنسانية العظيمة لم ترتق كثيرا عن مستوياتها السابقة؛ كمساحيق الوجه، وصور من التبرع والإحسان. وبقي السلاح الفتاك هو الأكثر حظوة، وصاحبه هو الأعز أهلا والأقوى جانبا والأعلى صوتا، وإذا بقلوب الذئاب ماتزال تنبض تحت جلود الحملان.
أما الأهداف التي وضعت لألفية جديدة ومختلفة، فقد ارتطمت بأشكال حديثة من العنصرية والفاشية، ومظاهر مقابلة من الطيش والهمجية، ودورات جديدة من الصراع الذي يعقب هدنة وتعقبه هدنة، يتلوها صراع إلى أن يشاء الله غير ذلك.
عودا على بدء، فقد توصل الدارسون للنظارة “القالبة للصورة” إلى أن الانسان لا يلبث أن يعتاد على المشهد المقلوب من حوله، فيصبح بإمكانه أن يأكل ويمشي ويركب الدراجة الهوائية في المشهد المقلوب من حوله من أعلى لأسفل، ومن اليمين إلى اليسار؛ فبإمكاننا أن نستمر ونواصل.