تسييس الطب

25/02/2015
في أوج الصراع المتأجج بين المعسكرين الشرقي والغربي، والذي شغل العالم في النصف الثاني من القرن الماضي، لم يترك أي من المعسكرين وسيلة لإثبات تفوقه على الآخر إلا واستخدمها؛ فلم ينج أي من مناحي الحياة، سواء على الأرض أو في الفضاء، من مظاهر هذا الصراع، بدءاً من العلوم المختلفة إلى الرياضة والفنون.

فالمعسكر الاشتراكي أراد تكريس الصورة النمطية عن الغرب كمكان متوحش، يعج بالمتشردين ومدمني المخدرات. أما المعسكر الرأسمالي، فقد قدم الشرق كمجموعة من مدمني الكحول، يصطفون في طوابير طويلة أمام متاجر خاوية على عروشها. بل وحاول كل منهما التعمية على أي إنجاز لدى الآخر يناقض هذه الصور.

وقد كان الطب أحد ميادين المنافسة بين المعسكرين. ويعرف كل من درس الطب في الاتحاد السوفييتي في تلك الحقبة الطريقة التي كان يزج بها بأسماء الأطباء والعلماء الروس وإنجازاتهم بمناسبة وفي غير مناسبة، وتكرار التأكيد على تفوق المدرسة الروسية في الطب العالمي. فلا تكاد تخلو مادة من ذكر للعمالقة أمثال بافلوف وأنوخين وبوتكن وغيرهم من العلماء الروس الذين لا ينكر فضلهم ونبوغهم إلا جاهل أو جاحد. لكن المبالغة في نسبة كثير من اكتشافات الأمراض والأعراض والتجارب لهم، كان يتعدى إثبات الحقائق التاريخية إلى التوظيف السياسي، لخدمة فكرة التفوق السوفييتي على الغرب.

وفي المقابل، نكاد لا نجد ذكرا للعلماء والأطباء الروس في المؤلفات الغربية إلا في أضيق نطاق؛ إذ كان الشخص يجد أسماء مختلفة للعديد من الأمراض والمتلازمات، باختلاف الكتاب الذي يقرأه.

فالتوظيف السياسي للطب وغيره من العلوم ليس حديثا، ولطالما استخدمته الأنظمة الحاكمة على مدى العصور؛ إما لإثبات تفوق عرق أو حضارة، أو من أجل اكتساب شرعية الإنجاز أمام المنافسين. وكل ذلك يبقى ضمن المقبول إنسانيا، ما دام يستند إلى حضارة وتقدم، حتى ولو شاب هذا التوظيف بعض المبالغة، إما تضخيما للذات أو تبخيسا للآخر. دار في ذهني كل هذا وأنا أرى المستوى الهابط الذي وصلت إليه بعض الأنظمة الحاكمة وماكيناتها الإعلامية في استغلال الطب والوعود الكاذبة من أجل دغدغة عواطف الناس، بالإعلان عن إنجازات خيالية جعلت منا أضحوكة للآخرين، وبحيث نواري وجوهنا خجلا من زملائنا في الغرب.

فالكوميديا السوداء التي نقرأ عنها، بين الحين والآخر، بالإعلان عن اكتشاف علاج سحري لبعض الأمراض التي استعصت على العالم، وما يرافقها من تبن سياسي من قبل بعض المؤسسات التي يفترض فيها التزام المنهجية العلمية، والتي ارتضت أن تقوم بدور “العراب” العلمي لهذه المهازل، تؤشر على مستوى الانحدار الذي انجر إليه البعض، وعمق الأزمة الأخلاقية التي نعانيها. من حق الأمم والدول الافتخار بإنجازاتها وإبرازها. لكنها يجب أن تكون إنجازات حقيقية، تستند إلى مشاريع نهضوية حقيقية؛ لا أن تمتهن بيع الوهم مستغلة حاجة المرضى وتعلقهم بكل بارقة أمل.

يجب أن يبقى الطب وآلام الناس خارج حلبة الصراع بين الدول والاتجاهات السياسية؛ فالمتاجرة بآلام الناس وبيعهم الوهم، أمر فيه الكثير من الخسة.