كان لها من اسمها نصيب

29/04/2015
للربيع في تلك البلاد نكهة خاصة؛ فهو يجيء لينفض عنها كآبة شتاء طويل، وتكون الأرض متشوقة للشمس لتضع عنها معطفها الجليدي، وترتدي الربيع متبرجة تخطف الأبصار وتأسر القلوب.

لم يكن ذاك اليوم من ربيع العام 1986 ليشذ عن أمثاله؛ شمس ساطعة، وسماء صافية تتخللها بضع غيمات متفرقة. أما الأرض، فقد ارتدت الأخضر الذي لا يكاد ينحسر إلا عن نهر أو بحيرة آسرة.

كان القطار يسير بنا على غير عجلة من أمره، قاطعاً مسافات من أراضي أوكرانيا باتجاه بيلاروسيا (روسيا البيضاء). لا يقطع صوت عجلاته الرتيب، إلا موسيقى فرحة تنبعث من سماعات العربة إيذانا باقتراب عيد العمال.

أجواء العيد بدت واضحة على محيا البلدات والمحطات التي مررنا بها؛ فالأعلام الحمراء تتزاحم مع الشعارات التي تمجد العمل والعمال، ووجوه الناس تعكس هذا الجو الاحتفالي.

لم يكن أي منا يدرك حجم المأساة المسكوت عنها، ولا الموت المتخفي بين نسمات وأشعة شمس ذاك اليوم. فغير بعيد عنا، كان آلاف الجنود والمتطوعين يحاولون، بأدوات بدائية، طمس آثار الكارثة التي حاول النظام القائم إخفاءها عن مواطنيه والعالم. لكن كيف يمكنه إخفاء كارثة بهذا الحجم، جثمت على أجزاء واسعة من نصف الكرة الشمالي؟!

إنها تشرنوبل، تلك البلدة الوادعة التي يعني الجزء الأول من اسمها “السواد”، والتي لم يسمع بها أحد من قبل لكنها قفزت فجأة لتتصدر الأخبار، مصدرا للرعب اجتاح العالم كأول كارثة لمفاعل نووي سلمي.

لقد دفع آلاف من البشر حياتهم ثمناً لهذه الكارثة. وإذ اختلفت الأرقام المعلنة بين النظام القائم آنذاك ومنظمات البيئة، فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن هذه الكارثة أحدثت دماراً دائما في مناطق واسعة. حيث حولت في لحظات مدينة “بريبيات” التي كانت تنبض بالحياة، إلى مدينة أشباح اتشحت بالسّواد، وهجرها أهلها وتركوها شاخصة توحي بمشهد الموت والخواء. ولم يرثها أحد من بعدهم، لتحدث الأجيال عن مجد مدينة غابر.

كما خلفت تلك الكارثة آلاف الإصابات بالسرطان، وخاصة سرطان الغدة الدرقية. إذ تذكر بعض الدراسات أن عدد حالات السرطان الناتجة عن الكارثة خلال العقود الماضية قد يصل إلى ربع مليون حالة.

لقد كتب كثيرون عن كارثة تشرنوبل، وسال الكثير من الحبر، وأصبحت حالة دراسية في كل مساقات السلامة العامة. لكن السؤال الأهم : هل استوعب العالم الدرس، أم أن كل هذا قد تم دفنه تحت أطنان الخرسانة التي دفن تحتها المفاعل، والذي ما يزال إلى اليوم يرسل رسائله التحذيرية التي لا يعلم أحد، إلا الله، متى سيضعها حيز التنفيذ؟

لا شك في أن اكتشاف الطاقة النووية السلمية، قد شكل علامة فارقة في تاريخ البشرية، وجلب للإنسان الكثير من الرفاهية. لكنها أحدثت أيضاً دماراً لم تكن كارثة تشرنوبل أوله ولا آخره، بل مثالا على الدمار الهائل الذي قد يجلبه الإنسان على نفسه!