الشهداء يعودون.. ليعدموا!

27/10/2015
“كل شيء بالبطاقة اليوم يا عمي العابد! الماضي الثوري لا بد من بطاقة تشهد عليه، النضال لا بد من بطاقة تثبته، حسن السيرة لا بد له من بطاقة، الخيانة فقط لم توضع لها بطاقة. نعرف كلنا الخائن لكن لا نستطيع أن نواجهه، لأن البطاقة هي الصح، حيثما شاء الحي وجه رأس الميت.

“سكان القرية كلهم يعرفون ذلك، لكنهم انتخبوه بالإجماع… ابن الخائن. الاستسلام المطلق لموجة العفو عما سلف، هو الذي حملنا على انتخابه. لعل رغبتنا العارمة في طي صفحة الثورة هي التي جعلتنا نقدم على ذلك. إنني لأتساءل هل كنا نرفض انتخاب أبيه الخائن لو بقي على قيد الحياه؟ لقد فعلنا أسوأ من ذلك”.

الاقتباس السابق من قصة وقعت بين يدي مؤخرا لكاتب الجزائر الكبير الطاهر وطار، واسمها “الشهداء يعودون هذا الأسبوع”. وكنت قد قرأتها للمرة الأولى في صباي، عندما نشرت من خلال المشروع التنويري المميز “كتاب في جريدة”. وقد اثّرت فيّ هذه القصة كثيرا؛ إذ ناقشت موضوعا كنت أظنه من المسلمات، وهو موضوع الشهادة والشهداء، وموقفنا الحقيقي منه بعد أن يزال عنه بعض الزيف والنفاق اللفظي الذي لا يتعدى حناجر الخطباء وحبر الشعراء.

لقد اكتسبت هذه القصة في قراءتها الثانية معنى وبعدا جديدين، في ضوء ما تمر فيه منطقتنا من أحداث جسام، غيرت الكثير من المفاهيم، وانقلبت على ما كنا نظنها مقدسات. وما الكوميديا السوداء في الخبر الذي تداولته وسائل الإعلام قبل أشهر -عن صدور حكم بالإعدام عن إحدى المحاكم في بلد عربي على عدد من الشهداء الذين قضوا في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي- إلا أحد الشواهد على ما ذهب إليه الطاهر وطار قبل عقود. وأجزم أن القاضي الذي اقترف الحكم لم يقرأ هذه القصة، وأشك إن كان قد قرأ أي قصة. وليس بعيدا عن هذه المحاكمات “القضائية” أخرى “دينية”، تصدر عن مشايخ يحاولون لي عنق النصوص لخدمة فكرتهم من خلال “وَلاَتُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ”. وثالثة سياسية تصدر عن سياسيين يريدون تقديم أوراق اعتمادهم للغرب من باب إدانتهم “للعنف والعنف الضاد”، مساوين بين القاتل والضحية.

ما الذي يدفع أمة لأن تحاكم شهداءها وهم الذين قدموا حياتهم قربانا بين يدي تحررها، من دون أن ينافسوا الأحياء على مكاسبهم الدنيوية، فتركوا لهم كل ما هو أرضي، قانعين بوعد السماء؟ لقد أجاب الطاهر وطار عن هذا التساؤل من خلال ردود أفعال أبطال قصته على احتمالية عودة الشهداء. إذ إن هذه العودة ستكشف الخونة وتعري المتسلقين الذين التحقوا بقطار الثورة متأخرين، لكنهم قفزوا إلى مقعد القيادة ليقطفوا ثمارها. كما ستكشف المنتفعين بشهادتهم، والمتاجرين بدمائهم.

فابن الخائن الذي خلف والده رئيسا للبلدية، لا يتردد في إصدار حكمه على الشهيد العائد “سأنتقم لأبي، سآكل لحمه بأسناني”. والراتعون في الامتيازات التي اغتصبوها من دون وجه حق من رفاق الماضي، يخشون أن يأتي من يقاسمهم إياها. والحزبي المنتفخ بغنائم الثورة المنهوبة، يطالب بإعادة تأهيلهم “لينسجموا مع المرحلة” .

تكره الأمم شهداءها عندما تعلم أنهم يعرون الواقع الكريه التي تعيشه؛ فهم المرايا التي تكشف عريها الأخلاقي والقيمي، صارخة: “أنت عارٍ يا فخامة الرئيس”.

عندما تحاكم الأمم شهداءها، فإنما تحاكم الفكرة والرمزية، من خلال هز صورتهم في الوجدان العام.

لقد اراد وطار محاكمة المجتمع الذي انقلب على مبادئ الثورة من خلال الشهداء. لكننا اليوم نحاكم الشهداء من خلال مفاهيمنا المشوهة.