العودة إلى البدايات

11/11/2015
لو سألني أحدهم أن أزكي له طبيباً مميزاً في علاج أمراض القلب أو الأعصاب أو الرئة، فلن أتلعثم، وسأجيبه من دون تردد مسمياً عشرات الأطباء المتميزين في هذه التخصصات، وغيرها من فروع الطب المختلفة.

لكن الحال ستتبدل إن طُلب مني أن أسمي له أطباء مختصين في الأمراض الباطنية العامة أو طب الأسرة؛ وعلى الأغلب سأحتاج إلى الغوص في أعماق الذاكرة لاسترجاع عدد قليل من الأسماء.

لقد شهد الطب، في العقود القليلة الماضية، تحولاً ملحوظاً في اتجاه الأطباء إلى التخصص، وتخصص التخصص؛ فلم يعد لدينا أطباء مختصون في نظام أو عضو تشريحي معين، بل أصبح الاتجاه إلى التخصص في جزء من الجزء.

لقد حصل هذا التحول تحت ضغط البريق الذي تتسم به هذه التخصصات الدقيقة، وجاذبية المسميات التي تحملها، فضلا عن العائد المادي الكبير الذي تحققه لصاحبها، مقارنة بالرعاية الأولية وطب الأسرة، مما يحفز الأطباء للإقبال عليها رغم طول ومشقة الرحلة.

وأجزم أننا لو أجرينا استفتاءً بين طلبة كليات الطب لاستقراء توجهاتهم المستقبلية، فلن نجد طالباً واحداً، ربما، يعتزم التخصص في طب الأسرة أو الطب العام. وبالتالي، تقع المسؤولية على القائمين على الرعاية الصحية للإعلاء من شأن الرعاية الأولية، والتي أثبتت دراسات عديدة أهميتها القصوى من حيث جودة مخرجات عملية الرعاية، والسيطرة على الكلفة المنفلتة، والتي باتت ترتبط بهذا النوع من الرعاية. ففي كثير من الدول المتقدمة، يلعب أطباء الأسرة دور صمام الأمان للحد من الاستخدام الجائر، وغير المستند الى الدليل العلمي، للفحوصات المكلفة، والأدوية باهظة الثمن، في حال وجود بدائل أقل كلفة وبالفعالية نفسها.

ويصبح هذا الموضوع أكثر أهمية، في الوقت الذي ارتفع فيه متوسط عمر الإنسان، ليصل أرقاما كانت تعتبر مستحيلة قبل عقود، مع ما يترتب على هذه الزيادة من إصابة بأمراض مزمنة. إذ إن أكثر من نصف السكان يعانون من مرض مزمن أو أكثر، بما يؤكد أهمية الاستثمار في الطب الوقائي. وهو ما لا يستطيع القيام به الأطباء أصحاب الاختصاصات الدقيقة، لعدم توفر الوقت الكافي الذي يقضونه مع المريض.

ويشير بعض الدراسات إلى أن متوسط الوقت الذي يقضيه أطباء القلب مع المريض لا يتجاوز الخمس دقائق. وهو بالتأكيد غير كاف للتحدث مع المريض حول أمور تخدمه من ناحية صحية وفي غاية الأهمية؛ كالحمية، والتوقف عن التدخين، وممارسة الرياضة، وغيرها من الأمور الوقائية الأخرى.

أعتقد أننا لن ننجح في تطبيق التغطية الصحية الشاملة، والتي كثر الحديث حولها في الآونة الأخيرة، ما لم نعمل على إيجاد قاعدة عريضة من أطباء الأسرة المدربين تدريبا جيدا، والمؤهلين للنهوض بهذه المهمة، وأن نوفر لهم عائدا ماديا منافسا لأقرانهم في التخصصات الأخرى.