“سيئ الذكر…”
23/12/2015
لم يكن غبار الحرب العالمية الأولى قد انقشع بعد، ولم يهدأ هدير مدافعها، حتى وجد الأطباء أنفسهم حيارى أمام حالات لجنود أشباه أحياء، يعانون من حالات فقر دم حاد، إضافة الى ظهور أعراض أخرى. ومما زادهم حيرة، وجود استنزاف كامل لمصانع إنتاج خلايا الدم في النخاع العظمي لهؤلاء الجنود. ولوحظ أن العامل المشترك بينهم هو: تعرضهم لغاز الخردل القاتل!
عبثاً حاول بعض العلماء لفت نظر المجتمع العلمي لهذه الظاهرة، وإمكانية الاستفادة منها في علاج بعض أنواع السرطان، وسرطان الدم على وجه التحديد. لكن هيهات لهذه الأصوات أن تجد آذاناً صاغية في عالم طغى فيه صوت الرصاص وأزيز الطائرات على كل مناحيه.
وقد تطلب هذا الأمر من العلماء بضعة عقود ليسترجعوا صدى أصواتهم، وليجدوا في مخابرهم التي طغى عليها الجانب العسكري فسحة لاستكمال تجاربهم على الخلايا السرطانية، وتأثرها بهذا الغاز. وجاءت النتائج المخبرية باهرة، لكن المسافة بين حواضن المخابر وبين جسد الإنسان جد شاسعة.
فلطالما حلم العلماء بمركب كيميائي يعمل بانتقائية في استهداف الخلايا السرطانية دون السليمة، لكن مصيرهم كان الفشل. فهذه المركبات في معظمها أشبه بالقنابل العمياء التي لا تفرق بين الخلايا المصابة وتلك السليمة، وإن كان تأثيرها على الأولى أقوى، وهنا تكمن العقدة الأكبر في علاج السرطان.
أسوق هذه المقدمة بين إيدي القراء الذين تداولوا الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام مؤخراً، وسرى بين الناس كالنار في الهشيم، وفحواه أن أحد الباحثين أثبت أن المرضى الذين يتعرضون للعلاج الكيماوي يعيشون أقل بكثير من أقرانهم الذين لا يتعرضون له، وأن هذا العلاج ليس سوى مؤامرة كبرى تشترك فيها شركات الأدوية مع الأطباء والمؤسسات البحثية بهدف الربح المادي. ولم يكن مفاجئا تقبل الكثيرين لهذا الخبر، وذلك للسمعة السيئة التي يحظى بها هذا العلاج.
لست هنا بصدد الإعداد لمرافعة للدفاع عن هذا العلاج، لكنني وكدأبي، كلما قرأت خبراً صحفياً يتعلق بموضوع طبي أحاول الوصول الى أصل الخبر من منبعه. وكان ما وجدت لا يتعدى معلّقة هجائية تفتقر إلى”ألف باء” البحث العلمي، وإلى المعلومة التي تستند الى الإحصاء.
لا شك أن للعلاج الكيماوي آثارا جانبية بالغة الخطورة، وأحياناً قد تكون قاتلة. لكن الثابت، أيضا، أن هذا العلاج كان حجر الزاوية في كل النجاحات التي تحققت في علاج السرطان عبر العقود الماضية، والتي حولت مرضاً مميتاً كـ”لوكيميا الدم” عند الأطفال إلى مرض تبلغ نسبة الشفاء منه 90 %. وكذلك الأمر فيما يتعلق بسرطانات أخرى عديدة لدى الأطفال والبالغين، لم يكن أحد يحلم بإمكانية الشفاء منها. ولا أدل على ذلك من عشرات الملايين من البشر الناجين من السرطان والذين يعيشون بيننا.
وكطبيب مختص في هذا المجال، أدرك تماما أن هذه النجاحات لا تنسحب على أنواع أخرى من السرطان، مثل سرطان الرئة والبنكرياس وغيرهما، وأنه ما تزال أمامنا طريق طويلة قبل الاحتفال بالقضاء المبرم على هذا المرض. لكن “ما لا يدرك كله لا يترك جله”.
قال أحد الأطباء قبل قرون: “كل دواء يحوي بين طياته سما متخفيا”. وبالنسبة للسرطان، يبدو أن كل سم يحتوي بين طياته دواء محتملا. إن التعامل السليم والعقلاني مع المرض والدواء يكمن في المفاضلة بين جلب المصلحة وتحمل المفسدة الناتجة عنه، ومدى تغليب أحدهما على الآخر، إلى أن يأتي اليوم الذي تتحول فيه “قنابل” العلاج العمياء إلى أخرى ذكية مبصرة. وقد تؤسس العلاجات المُوَجَهَة (Targeted Therapy) أو “الطب الشخصي” ( Personalized (Medicine، أو حتى العلاج المناعي، بداية لهذا التحول.