البابا يشخص أمراض القيادة

30/12/2015
يخفي البابا فرانسيس تصميمه على إجراء إصلاحات واسعة على هيكلية الكنيسة الكاثوليكية. فهو يعي تماما أهمية الإصلاح، وعدم الركون إلى السكون السلبي، خاصة في عالم سريع التغير؛ ينتج من المعرفة في العام الواحد ما يفوق ما أنتجته البشرية في قرون طويلة.

وقد شكل خطاب البابا السنوي الذي ألقاه في الاحتفال بأعياد الميلاد، فرصة سانحة للاطلاع على تشخيصه للأمراض التي تصيب أوساط القيادة في أي مؤسسة كانت. وشخّص فيه، من دون مجاملة أو مواربة، الأمراض التي تصيب رموز القيادة وإدارة المؤسسات. وتكمن أهمية هذا التشخيص في توفر أمور مشتركة كثيرة بين إدارة المؤسسة الدينية وإدارة مختلف المؤسسات الدنيوية؛ فجميعها تحكمها بنية بيروقراطية هرمية صارمة.

فالقادة، وإدارة المؤسسات، يمرضون كما تمرض الأجساد، ويشيخون كما تشيخ سائر المخلوقات. ولا بد من اللجوء إلى الأطباء طلبا لتشخيص مبكر يؤدي إلى علاج ملائم قبل أن يستفحل المرض، ويصبح من المستحيل التعامل معه.

وسأحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على بعض من هذه الأمراض التي ناقشها البابا، وقام باستخلاصها المفكر العالمي والخبير بشؤون الإدارة والأعمال الدكتور غاري هَامِل (Gary Hamel)، في دراسة له نشرت في مجلة “Harvard Business Review”، في 17 نيسان (أبريل) 2015.

أول هذه الأمراض يتمثل في الاعتقاد بأننا مخلدون، لا يجري علينا ما جرى على من سبقنا! وأننا، بالتالي، لسنا مجرد حلقة صغيرة في سلسلة سبقتها، وتتبعها حلقات في تاريخ المؤسسات التي نديرها. وهذه الأمراض تتطور مع الشخص مع مرور الوقت؛ إذ يبدأ بالشعور بتفوقه على الآخرين، وبعدم إمكانية استمرارهم من دونه! إلى أن يصل إلى تأليه الذات الذي عبر عنه فرعون بقوله “مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ”! فهو الذي يرسم خريطة الطريق؛ يبين الخطأ والصواب، ولا يقبل لأحد أن ينازعه أو حتى أن يشاركه هذا الحق!

ثاني هذه الأمراض، هو النفاق للقائد أو المسؤول خشية بطشه، أو طلبا لمنفعة شخصية، مادية كانت أم معنوية. وعادة ما يستهدف القائد أو المسؤول الباحث عن الطاعة العمياء والولاء والتبعية، فتكون النتائج كارثية بتفضيل المنافقين، وتصدرهم لقيادة المؤسسة وإقصاء كل ذي رأي أو صاحب موقف.

هذا يقود إلى مرض آخر، يدعى مرض الدائرة المغلقة حول المسؤول، والتي تحتكر الحق في التواصل معه، وتقوم بـ”فلترة” ما يصل إليه وما يصدر عنه، بحيث يصنف الآخرون في خانة “هم” مقابل “نحن”. ولا تلبث هذه الدائرة أن تطبق على المسؤول بفكيها، حتى تصبح الرئة التي يتنفس من خلالها، والتي سرعان ما تخنقه.

مرض آخر ليس أقل خطورة من سابقيه، وهو تحجر القلب؛ وذلك عندما يفقد الإنسان صفاءه الداخلي، ويدفن نفسه تحت أكوام من الأوراق الخالية من أي لمسة إنسانية، ويفقد تفاعله وتعاطفه مع زملائه، ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم.

أما عندما يصاب القائد بـ”ألزهايمر”، فإنه يسقط من ذاكرته كل ما يذكره بمن دعمه خلال مسيرته، وكان له الفضل في وصوله إلى ما وصل إليه، وكان مصدر إلهام له! ويحاول أن يمحو من ذاكرته الماضي ليبقى حبيس اللحظة الراهنة.

مرض آخر لا تكاد تخلو منه مؤسسة، ألا وهو مرض الشائعات، والتذمر والطعن في الظهر. وهو مرض الجبناء الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة الكافية للإفصاح عن آرائهم جهاراً، فيلجأون إلى التهامس خلف الأبواب المغلقة، يفرغون سُمّ غيظهم وغضبهم. وهؤلاء خطرهم كخطر العشبة الضارة التي لا تفتأ تتلف الزرع ما لم تعالج مبكرا.

ثم عرّج البابا على ذكر أمراض أخرى منتشرة على نطاق واسع في مختلف المؤسسات، كحالة الفصام التي تصيب القائد الذي يعيش حياة مزدوجة غارقة في النفاق والتلون؛ أو فقدان التنسيق بين الإدارات المختلفة، فتصبح المؤسسة كالأوركسترا الرديئة التي تصدر نشازا وضوضاء يصمّان الآذان. وربما الإغراق في التخطيط حتى أدق التفاصيل، ليتحول القائد إلى “روبوت” خال من أي لمسة إنسانية.

هذه بعض أمراض القيادة التي أشار إليها البابا فرانسيس. وهناك الكثير من الأمراض الأخرى، والمتفاوتة في درجة خطورتها. لكن كما هي الحال مع أمراض الجسد، تبقى الوقاية والكشف المبكر خطوط دفاعنا المتقدمة للتصدي لها، ومقاومتها.