رجل بأمة
في هذا الليل الحالك الجاثم على صدورنا، أصبحنا متلهفين لكل بصيص ضوء يبدد شيئا من هذه العتمة. ويأتي هذا القبس من باكستان، ومن كراتشي بالتحديد؛ تلك المدينة التي ارتبط اسمها بالفقر والموت والتهميش.
أما المناسبة، فهي وفاة أبي الفقراء ومنارة باكستان عبدالستار إدهي؛ الرجل الذي حاز عن استحقاق لقب قديس باكستان، وذلك تقديرا له على أياديه البيضاء التي طالت الشرائح المهمشة كافة في باكستان، وتعدتها إلى دول أخرى.
بدأ عبدالستار رحلته مع الخير متجولا بسيارته المتواضعة في زقاق بكراتشي، ينقل المرضى المعوزين إلى المستشفيات، معوضا تقاعس الدولة عن القيام بدورها. وانتهت به الحال مديرا لأكبر جمعية خيرية في باكستان، وربما العالم؛ إذ تمتلك جمعيته 1500 سيارة إسعاف، وعددا من طائرات النقل الطبي. ولم يقف عمل الخير لديه عند الإسعاف؛ بل بنى الملاجئ للأطفال اللقطاء والأيتام، وآوى النساء المعنفات، وعلّم أطفال الشوارع، وتكفل بعشرات الآلاف من الأيتام.
ورغم شهرته التي طاولت الآفاق، لم يترك حياته المتواضعة، ولم يتخل عن تواضعه؛ فكنت تجده يجوب شوارع كراتشي وأزقتها يرفع الجثث الملقاة وينقلها إلى المشرحة، ويقوم بتغسيلها وتكفينها بنفسه.
ورغم حجم إنجازات هذا الرجل، فإنه لم يجد له مكانا في سجلات جائزة نوبل التي رشح لها أكثر من مرة. إذ يبدو أن “وصمة” الاسم والمظهر لا تتناسب مع شروط الجائزة التي لوثتها السياسة. لكن جائزته الكبرى تكمن في المكانة التي يحتلها في قلوب الفقراء والمهمشين الذين نذر حياته للتخفيف عنهم ورعايتهم.
ويمرض عبدالستار، وتعرض عليه الحكومة إرساله للمعالجة في الخارج. لكنه يؤثر أن يعالج حيث يعالج الفقراء الذين نذر حياته لهم، لتُقبض روحه عن 90 عاما، تاركا إرثا كبيرا من الأعمال الخيرية، ومخلفا شريكته في رحلة الخير بلقيس وأربعة من الأبناء، لم يترك لهم إلا بيتا متواضعا من غرفتين، لكنه ترك اسما لرجل بأمة.
رحل عبدالستار إدهي وكثيرون منا لم يسمعوا باسمه. لكننا نحفظ عن ظهر قلب أسماء ملوك الطوائف وأمراء الحرب وسماسرة السلاح! أليس هذا الإطار الذي أرادوه لنا؟!