المشكلة ليست في العشب

16/08/2016

“خدوا عيني شوفوا بيها”؛ هكذا كان رد كاتب كلمات الأغنية الشعبية التونسية الأشهر، على المتسائلين عن سر إعجابه بحبيبته السمراء: “قالوا لي إش عجبك فيها؟!”. وبهذه الإجابة البسيطة البليغة، عبّر الشاعر عن سر التباين في الرأي واختلاف وجهات النظر بين الناس؛ إعجابا وشغفاً بأشخاص، وأشياء قد لا تكون ذات قيمة من وجهة نظر البعض. ذلك أنهم لا يرون ولا يدركون أن هذه المشاعر الملتهبة حباً وإعجابا، تنبع من دواخلنا، مختلطة بعواطفنا وبطريقة تقديرنا لها، أكثر من ظاهرها أو مما تبدو عليه في الواقع أو بنظر الآخرين.

ففي تقييمنا للأشخاص أو الأشياء أو الأحداث، نركز عادة على جانب واحد فيها على حساب الجوانب الأخرى. وغالبا ما يكون هذا الجانب هو الجانب الظاهر، أو ذلك الذي نرغب فيه، مما يعطيه قيمة أكبر من قيمته الحقيقية. ويبقى هذا الجانب يتضخم حتى يطغى على مجمل الصورة، فيترك لنا انطباعاً واهماً يضفي على الأشياء أو الأحداث صفة الكمال.

إذ إن الدماغ البشري لا يستطيع التعامل مع جوانب المواضيع كافة أو الصورة كاملة ضمن إطار معين، فيختار بعضاً من مكوناتها، يركز عليها ويحللها، وبالتالي يحكم على الأمور من خلالها. وفي هذه الأثناء، غالبا ما يتعامى عن الأمور الاعتيادية، ويأخذها كمسلمات، حتى لو كانت ذات قيمة. كما يعطي الدماغ وزنا أكبر للجوانب السلبية والتي قد تهدد استقرارنا، من تلك الإيجابية التي قد تجلب لنا المتعة.

فنحن غالبا ما نرى العشب أكثر خضرة في حدائق الجيران، وهو ما ينطبق على معظم مناحي حياتنا: كالانتقال إلى عمل آخر، أو تغيير البيت أو السيارة. فإذا ما كان الأجر المالي هو ما يزعجنا في عملنا، فإن أي عمل بأجر أعلى سينظر اليه كعمل أفضل، حتى لو كان كثير السلبيات. ذلك أن أدمغتنا ستركز على عامل الأجر المادي،  فيطغى على الجوانب الأخرى.

وحتى في حياتنا الأسرية والعلاقات الزوجية، فإن كثيرا من حالات عدم الوفاق بين الزوجين تتمخض عن وجود سمة سلبية في أحدهما أو كليهما، لا تلبث أن تتضخم، خاصة إذا ما قورنت بإيجابية أخرى عند شخص آخر، فيكون ذلك مدعاة لزيادة الأمور تعقيدا، ويجعل المقارنة ليست في مصلحة الشريك.

هذه الظاهرة يعرفها علماء النفس بـ”وهم التركيز” (Focusing Illusion)؛ وهي عملية الانحياز المعرفي الناتج عن إيلائنا أهمية مبالغا فيها لجانب واحد من الحدث، والذي بدوره يؤدي إلى إطلاق أحكام خاطئة وتنبؤات بعيدة عن الواقع.

هذه الظاهرة هي التي تحكم تباين وجهات النظر حول مفاهيم مختلفة، كالسعادة أو راحة البال، وذلك عندما نركز على ما نفتقده ويملكه الآخرون، لنختزل فيه هذه المصطلحات، رغم أن الواقع غير ذلك.

فتجدنا نستمتع بانتظار الأحداث أكثر بكثير من استمتاعنا بالأحداث نفسها. إذ إن انتظار الانتقال إلى عمل جديد، أو تبوؤ منصب أعلى، أو شراء بيت أو سيارة، يجلب لنا لحظات من السعادة أكثر بكثير من تحصيل هذه الأمور، لأننا نبالغ في تقدير مساحة الحيز الحقيقي الذي ستشغله في حياتنا. ولحظة حصولنا عليها، نبدأ التعامل معها كمسلمات، فتقوم أدمغتنا بالتركيز على جوانب معينة منها لتشكل لنا صورة وهمية جديدة تدفعنا إلى ملاحقة وهم جديد.

العشب في حديقة الجيران ليس أكثر خضرة من عشب حدائقنا. لكن علينا الاعتناء بعشبنا بما يكفي ليخضرّ أكثر.