عقلنة التعاطف

لا أذكر أن حدثا طبيا قد استحوذ على اهتمام الناس في السنوات الأخيرة كما فعل الطفل الذي لم يكد يكمل عامه الأول تشارلي غارد، الطفل الانجليزي الذي ولد يصاحبه مرض جيني نادر يؤدي إلى تلف الخلايا وعجزها عن إنتاج الطاقة الضرورية لنمو الجسم واستمرار الحياة.
قصة هذا الطفل بدأت عندما أعلن أطباء المستشفى الذي كان يتعالج فيه أنهم وصلوا معه نقطة اللاعودة وأن دماغه قد أصابه تلف دائم ما يحتم عليهم أن يوقفوا الأجهزة التي تبقيه على قيد الحياة.
لكن والديه رفضا الاستسلام للرأي الطبي وساعدهم في ذلك أنباء قادمة من خلف المحيط عن إمكانية علاجه باستخدام دواء غير مرخص، ويستخدم فقط ضمن نطاق التجارب السريرية، فقاما بحشد الرأي العام ضد المستشفى والفريق الطبي الذي تمت شيطنته، ووجدها بعض رجال السياسة والدين والصحافة فرصة لركوب الموجة، ومن ثم قام الاهل بنقل القضية إلى أروقة المحكمة العليا في بريطانيا ومحكمة حقوق الإنسان الاوروبية اللتين أيدتا بدورهما رأي الفرق الطبي.
توفي تشارلي، لكن الأسئلة الأخلاقية التي طرحتها قضيته ما تزال معلقة وتحتاج إلى إجابات قد لا يتوفر إجماع على قبولها.
التعاطف الإنساني هو أحد أرقى وأسمى الخصائص البشرية، لكنه يحمل في طياته تحيزا، فنحن نتعاطف مع من يشبهنا ومن نجد معه عوامل مشتركة ضد “الآخرين”، سواء أكان هؤلاء يمثلون الدولة أو المحكمة أو الفريق الطبي (كما هو الحال في القضية التي نحن بصددها)، وعندها يتعذر القيام بمحاكمة عقلانية للأمور، لذلك يجب علينا تحييد تعاطفنا أو عقلنته عند اتخاذ بعض القرارات الطبية او القانونية والتي تحتوي على جوانب أخلاقية، فرغم تعاطفنا كأطباء ومهنيين مع مرضانا وعائلاتهم فإنه يتوجب علينا أن نترك مسافة أمان عاطفي تسمح لنا باتخاذ قرارات صائبة.
فالانسان بطبعه يميل إلى الأنانية، وهي غريزة متأصلة فيه وقد تمنعه في كثير من الأحيان من اتخاذ قرارات عقلانية، لذلك كان العقد الاجتماعي الذي اتفق عليه المجموع على شكل “الدولة” بمؤسساتها المختلفة التي يفترض فيها أن تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد وأن توجه المقدرات المتوفرة لمنفعة أكبر عدد من الافراد بعيدا عن الأنانية الفردية التي تضع الفرد ومصلحته قبل مصلحة المجموع، شريطة ضمانة الحقوق الاساسية للافراد.
تبقى عاطفة الحب عاطفة سامية، لكنها “عن كل عيب كليلة”، ولا بد من جهة محايدة تحمل عنا عبء اتخاذ القرارات الصعبة التي قد لا نستطيع أو نرغب في اتخاذها حتى ولو قام بعض هواة الشعبوية و”محاربي الكيبورد” بشيطنتها كما في حالة الطفل شارلي.
إذا كان هذا الجدل يحدث في بلد يتمتع بتقاليد قانونية وطبية ومهنية عريقة، فما بالك بالدول التي ما تزال تتلمس طريقها في هذه المجالات!