تسريبات القرن
مايو 17, 2019
أسابيع وربما أيام بقيت على الموعد المؤجل لإطلاق خطة ترامب لتسوية الصراع في الشرق الأوسط أو ما اصطلح عليه بـ”صفقة القرن”، ومع ذلك فما يزال أصحاب القضية –التي حشرت في حجم صفقة- يتلقون المعلومات عن تفاصيلها من خلال التسريبات الإعلامية التي تعددت قنواتها، وتنوعت مصادرها: فبعضها عبري، وبعضها غربي وربما عربي أيضا. وقد اهتم الرأي العام بالتسريب الذي نشرته صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية لوثيقة زعمت أنه “تم تداولها بين مسؤولي وزارة الخارجية الإسرائيلية” وذلك لما قدمته من تفاصيل واقتباسات عزتها للصفقة، ولقربها من رئيس الوزراء الإسرائيلي.
ما يتسرّب من أمر الصفقة يشير إلى أنها في المجمل صيغة لتثبيت الوضع القائم في الجانب السياسي، ودعمه بمشاريع وإغراءات اقتصادية للحصول على موافقة الفلسطينيين والدول المحيطة، مجلة “فورن بوليسي” وصفت الطريقة التي تفرض فيها الاتفاقية على السلطة الفلسطينية بـ”المذلة”، وأنها تعاملت مع الجانب الفلسطيني وفق العبارة الأميركية المعروفة “خذها كما هي أو اتركها “، تسريب “يسرائيل هيوم” عرض بدوره نصوصا مهينة لعموم العرب في المضمون والصياغة مثل تقديم الحماية الإسرائيلية للدولة الفلسطينية وبتمويل عربي، وبناء مطار لغزة على الأرض المصرية وبتمويل عربي أيضا.
واستفزت تسريبات الصفقة مجمل الكتاب والسياسيين العرب في كتاباتهم وتصريحاتهم، وكذلك في مجمل ما يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي حول الصفقة، حيث لا تتجاوز الصيغ التي سربت حدود اتفاقيات الإذعان وكما عبر الدكتور حسن نافعة في صحيفة القدس العربي من أن الصفقة تعاملت مع إسرائيل كقوة عظمى “توفر الحماية لكل من يطلبها، وتتعامل مع الدول العربية باعتبارها مشيخات غنية تحتاج إلى من يحميها، ومن ثم عليها أن تدفع ليس فقط ثمن الحماية، وإنما أيضا تكلفة “تصفية القضية الفلسطينية”.
من عجائب ما نقلته وثيقة “يسرائيل هيوم” مشروع اتفاق ثلاثي بين إسرائيل ومنظمة التحرير وحماس، وذكرت حركة الجهاد الإسلامي أيضا في جزء من الوثيقة، رغم أن الحركتين مدرجتان أميركيا في قوائم الحركات الإرهابية!، ما قد يفسر على أنه اعتراف من صناع الصفقة بالأمر الواقع أيا كان، أو التلويح لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بتصنيفهما في ذات القوائم، أو هو جزء من حملة الخداع الضرورية لتمرير هكذا صفقة.
وتحدثت التسريبات كذلك عن مفاوضات وترتيبات تجرى لاحقا بين “إسرائيل” ودول عربية وصفت “بالمعتدلة”، ما يعكس توجها لتغيير الأطراف التي تصوغ العلاقة بين العرب وإسرائيل، والقفز عن دور الفلسطينيين وما كان يعرف بدول المواجهة وفي طليعتها الأردن التي لديها حقوق ومطالب جوهرية، وصياغة العلاقات العربية “الإسرائيلية” على أسس خارج الصراع التاريخي بين العرب و”إسرائيل”.
التوقعات لنجاح مشروع ترامب تبدو ضئيلة برغم الضغوطات الأميركية الفجة وحال الأمة العربية البائس، فالصفقة ليس لها أن تمر من غير موافقة واضحة فلسطينية وأردنية غير متوفرة مهما كانت المواقف الإقليمية والدولية، وهي بدورها متحفظة على الصفقة. كما أن مجمل صفقات ترامب الكبرى تتعثر سواءً مع الصين أو كوريا أو فنزويلا او المكسيك وأخيراً إيران، حيث بات لزاما عليه أن يحسن إنهاء الجولة الحالية مع أيران قبل أن يعلن عن تفاصيل صفقة القرن، وإلا فأنه سيطرح مشروعه من موقف ضعف وتخبط.
عندما تطالع تحليل توجهات وميول المعلقين على الصفقة في شبكة الإنترنت تجد أنها في الأغلب سلبية، ما يعزز ما نلحظه وما نتوقعه من رفض شعبي واسع لها. لقد عزز الأسلوب الذي تم فيه إدارة وتسويق هذه الصفقة من تشكيل صورة منفرة لها، ومتوجسة من نتائجها، وربما يعود ذلك في جزء منه للخبرات المتواضعة للثلاثي كوشنر- غرينبلات – وفريدمان في الدبلوماسية، وأيديولوجيتهم اليمينية، وأسلوب “البزنس” في التعامل مع مقدسات وهوية وكرامة شعب وأمة لا تقيس إمكانياتها بمقاييس ترامب وفريقه.
عيوب الصفقة هي في الأصل في مضمونها والرؤية التي تأسست عليها، وتفسيرها لأسباب فشل المقاربات السابقة، قبل طريقة إدارتها وأسلوب عرضها على الرأي العام الذي أظهر كثيرا من العجرفة. فبعد أشهر من الآن سينشغل ترامب وإدارته بالانتخابات القادمة، بعد أن يكون قد تعلم الدرس الذي سبقه اليه رؤساء كثيرون بأن القضية الفلسطينية ليست ميدانا سهلا لتحقيق نجاح شخصي لرئيس يسعى لإعادة انتخابه، أو لمن يسعى لخدمة عقيدته وقومه على حساب قضية شعب وأمة.