“فيلم أمريكي طويل”
أغسطس 16, 2019
عرضت قناة الجزيرة القطرية الأسبوع الماضي حلقة ضمن برنامحها الأسبوعي “خارج النص”، وتم تخصيصه لاستعراض ومناقشة المسرحية اللبنانية “فيلم امريكي طويل “، وهي المسرحية التي استوحاها وأخرجها ولعب دوراً رئيسياّ فيها الفنان الكبير زياد الرحباني، وعرضت المسرحية في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. وحظيت حينها باهتمام كبير في لبنان المنقسم طائفياً وسياسياً، والمتقاتل داخلياً، والمنهك من صراعات الهوية ومن التدخلات الخارجية.
نجحت المسرحية وعبرت خطوط القتال، واجتازت الحواجز من خلال أشرطة الكاسيت ووصلت إلى كل الشعب والوطن اللبناني، وحظيت المسرحية الملتزمة بقبول واسع – رغم أن أكثر الجمهور تلقاها في غياب أدوات المسرح الرئيسية-، ثم أعيد عرضها مؤخراً كما قدمت قبل خمسة وثلاثين عاما كفيلم سينمائي لاقى أيضاً إقبالا لافتاً في لبنان.
وقدّر لنا أن نتعرف على هذا العمل الفني في ثمانينيات القرن الماضي من خلال أصدقاء وزملاء لنا من لبنان حينذاك، ورغم التصاق العمل بتفاصيل الواقع اللبناني المتفرّد حينها والمختلف في سياقاته السياسية والاجتماعية والثقافية عن سائر الدول العربية، فقد وجد الكثير منّا في هذا المنتج ما جعله يستمع إليه أكثر من مرة، ويحمل في الذاكرة بعضا من سخرياته وقفشاته وعباراته.
المسرحية قدمت رؤية ساخرة وتشاؤمية عن الحرب الأهلية المجنونة، والتي تأسست على طائفية يرفضها -نظرياً- كل المتخاصمين من خلال مجموعة من المرضى النفسانيين مثلوا أطياف الشعب اللبناني وقتها، واجتمعوا في مصحة للأمراض العقلية، وعبّر الكاتب من خلالهم عن عبثية ذلك الصراع، وجسّد القلق والخوف والعدائية وخيبات الأمل من “لبنان الجديد”، وانغماس الشعب في الصراع من خلال حفلة جنون، وشارك في تلك الحفلة الهستيرية الأصحاء من الاطباء والممرضين جنباً إلى جنب مع المرضى والمدمنين.
جاء التذكير بهذه المسرحية في وقت عمّ الصراع والاقتتال، ومشاهد الدمار والخراب وحالة التشرذم والتفكك السياسي والاجتماعي والثقافي سائر أنحاء العالم العربي، وبرزت المشاهد العبثية، والانغماس الجماعي في كل ما يمكن أن يفرق المجتمعات من مذهبية وطائفية -إن تيسرتا- وإلا فإثنية أو أيديولوجية أو قبلية، وربما سياسية أو اقتصادية مغالية. وبالرغم من فجور هذه العبثية الذي لا تخطئه العين، وبالرغم من سطحية الفرز والتقسيم، إلّا أن الرّحى تظل تدور وتطحن البشر والحجر والشجر. في حين أن الكثيرين -من غير المعنيين بحفلة الجنون هذه- يفرون إلى المهجر، و يلجأ الكثير إلى المخدرات، ويكفر الشباب بأحلامهم، ويرتدون عن قيمهم إلى حالة من الحيرة والتيه والضياع، وحالهم كما ورد على لسان إحدى شخصيات المسرحية “ما حدا عرف شي من شي”.
التدخلات الأجنبية والأجندات الخارجية حاضرة أيضا ولكن بملامح عربية، واضحة ولكنها تستعصي على الإدراك، أما مصالح الزعماء وتجار الحروب المستفيدين من استمرارها فهي غير خافية على الجمهور، ولكن الجمهور يظل يسير خلف هؤلاء الزعماء، فالإنسان العادي بات عقله “معكوفا” .
عندما شاهد الناس “فيلم أمريكي طويل” بعد نحو أربعين عاما تندروا بأن كل الذي تغير بين الثمانين من القرن الماضي والعقد الحالي هو أن المسرحية أصبحت فيلماَ وأن الطائفية فرَخت مذهبية. ونزيد على ذلك بأن العالم العربي يكاد كله يعيش ذات المشهد.